شيراك الجزائري

TT

انفجر وزير الخارجية الفرنسي دومينيك دو فيلبان ضاحكا وانا اقول له بأنه سيكسب اغلبية هامة من الاصوات لو حدث ان رشح نفسه في انتخابات جزائرية، وكان ذلك تعليقا على خطابه الرائع في مجلس الامن، بعد الاستماع الى بليكس والبرادعي.

كنا في قصر الشعب في ختام اليوم الاول للزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي جاك شيراك الى الجزائر، وبعد مأدبة العشاء الرسمية للرئيس الفرنسي، الذي بدا خطابه لتحية مضيفه، الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، محواً لخطاب الرئيس الفرنسي الاسبق جيسكارد ديستان، والذي انطبق عليه المثل المعروف .. «أول القصيدة كفر».

وكان لحرص الضيف على اعادة الخاتم الرسمي للداي حسين، الذي كان على رأس الدولة الجزائرية في القرن السابع عشر، دلالة رمزية لم يفت معناها على المضيف الجزائري، وكان واضحا خلال الزيارة ان كلا من الضيوف والمضيفين يدرك بأنه لا مجال اليوم للفرص الضائعة وللأخطاء المتعمدة وغير المتعمدة ولاحتمالات سوء الفهم او نقص التفهم او اختلال التفاهم.

ولولا التفهم الجزائري لكان يمكن ان يكون تكوين الوفد الفرنسي مبررا لكي تقابل الزيارة بالفتور، حيث كان من بين اعضائه وزير قدماء المحاربين، وهو فرنسي من اصل جزائري ممن يطلق عليهم اسم «الحركى»، (بالألف المقصورة) والذين يحمل لهم الشعب الجزائري حجما من الكره قد يتجاوز كرهه للجيش الفرنسي نفسه.

وكان هناك ايضا عدد من قدامى «الجزائر الفرنسية» ممن يطلق عليهم اسم «المُوَطنين Les rapatries، وهم الفرنسيون الذي فروا الى فرنسا في 1962 ويطالبون اليوم بحقوق يقولون انهم فقدوها باستقلال الجزائر.

وكانت قد سرت اشاعة بأن الوفد سيضم المغني «انريكو ماسياس»، الذي اجهضت زيارته الى الجزائر منذ ثلاث سنوات، بعد ان ادلى بتصريحات حمقاء تجاوز فيها دوره كفنان، في محاولة للعب دور يتجاوز حجمه وتكوينه ومستواه الفكري.

وحاولت «اليزابيث شملا» (اياها) والتي كانت امامي على مائدة العشاء الرسمي، ان تقنعني ان «ماسياس» مرتبط بالتزامات فنية، ثم تراجعت لتقول انه لم يكن ليقبل المجيء لأنه غاضب على الحملة المضادة للسامية (؟) التي تعرض لها ممن وقفوا ضد زيارته للجزائر، وهو ما كان فرصة لأقول بأنني كنت واحدا من اولئك.

ولم يبد انها اقتنعت كثيرا بالشرح الذي قدمته، وأحسست انني كنت اتعامل مع شريط مسجل ومؤمن ضد اعادة التسجيل.

والواقع ان اشارة شيراك لحرية التنقل بين البلدين قد فهمت على انها مقايضة بين التوسع في منح «الفيزا» للجزائريين مقابل السماح بعودة «الحركى» الى الجزائر، وهو ما يفرض عليّ ان اوضح بأن هتافات بعض الشباب بقضية «الفيزا» لم تكن مطالبة بها بقدر ما كانت لوما للطرف الفرنسي، حتى وان كان الحصول على «فيزا» لبعض البلدان العربية لا يقل صعوبة، وارتبطت تلك الهتافات بصرخات تطالب فرنسا باستعمال الفيتو في مجلس الامن ضد اي مغامرة عسكرية امريكية. والواقع ان التعبير الذي استعمله شيراك في خطابه كان بالغ الحذر، اذ تحدث عن «السماح لمن يريدون زيارة قبور آبائهم واجدادهم او موطن رأسهم بحرية الدخول الى الجزائر»، وهو ما يجب ان يفهم منه انه يعني اساسا فرنسيي الجزائر، لأنه لم يستعمل تعبير ... «زيارة ذويهم».

واذا كان الطرف الجزائري لم يعترض على تشكيلة الوفد الفرنسي فإنه، في تصوري، اراد ان يُفهم الفرنسيين بأن الجزائر لن تعطي احدا فرصة انتحال دور الشهيد المزيف، وبالتالي فإن ضيوف شيراك سيكونون ضيوف الشعب الجزائري، وان كان هذا لم يمنع الجزائريين، خصوصا البرلمانيين، من مصارحة ضيوفهم بالعديد من النقاط التي لا مجال فيها لغير الصراحة.

وكان واضحا ان الجانب الفرنسي استعد تمام الاستعداد للزيارة، وربما اكثر بكثير من استعداد الجانب الجزائري لها، وكان من عناصر الاستعداد القيام بدراسة كاملة لملف العلاقات بين البلدين ومراحل تطورها واسباب تعثرها، حيث كان من مآخذ الوطنيين على السياسة الفرنسية انها تستقي معلوماتها عن الجزائر من المصادر الناطقة بالفرنسية، وكثير منها يمثل رجع الصدى لأفكار تنبت وتترعرع في المخابر الفرنسية.

ولعلي اذكّر بأنني كنت اشرت الى الخطأ الذي يرتكبه الفرنسيون وهم يتحدثون عن المصالحة الفرنسية ـ الجزائرية، وقلت انهم يريدونها كمصالحة المانيا/هتلر مع فرنسا/بيتان، في حين اننا نريدها كمصالحة فرنسا/دوغول مع المانيا/اديناور.

وكنت سعيدا وانا اتابع وسائل الاعلام الفرنسية وهي تسترجع النصف الثاني من المقارنة وتستعيده اكثر من مرة، مما يؤكد ان كتابات كثيرة باللغة العربية خضعت للدراسة في اطار الإعداد للزيارة.

ورغم ان مبادرة الرئيس الفرنسي بزيارة النصب التذكاري لشهداء الثورة قدمت كأنها اعتراف بالثورة الجزائرية وشهدائها، الا انها كانت في واقع الامر، ورغم اهميتها الرمزية، ردا على مبادرتين قام بهما رئيسان جزائريان في فرنسا، اولهما الشاذلي بن جديد.

واذكر هنا بأن جيسكارد لم يقم بزيارة مقبرة الشهداء خلال زيارته الفاشلة في 1975.

وكان رد شيراك على خطاب الترحيب الذي القاه الرئيس الجزائري خطابا دسما عميق الدلالة، وأحس الجزائريون باعتزاز كبير وهم يتابعون حجم التقدير الذي عبر عنه الرئيس الفرنسي لمضيفه، وتأكيده للثقة بالمسيرة الجزائرية، وكان ملحوظا ان نص الخطاب وزع على الحضور باللغتين العربية والفرنسية، وهي لفتة اخرى بالغة الذكاء، لم يقم بها رئيسان اوروبيان زارا الجزائر خلال العام الحالي.

واقترب مستوى الاستقبال الشعبي للرئيس الفرنسي من استقبال الجزائر للملك «فيصل» وللرئيس «فيديل كاسترو» في السبعينيات، وان لم يصل الى مستوى استقبال «عبد الناصر» في بداية الستينيات، ومع فارق رئيسي بين دوافع الاستقبال الحار، حيث ان عنصرا هاما ساهم في استثارة حماس الجمهور، وهو الموقف الفرنسي المشرف والشجاع تجاه التهديد الامريكي بغزو العراق، خصوصا مقارنة بمواقف عربية واسلامية.

والمهم هو ان الاوضاع بعد الزيارة لن تكون كما كانت قبلها وعلى مختلف الاصعدة، بحكم نوعية العلاقات بين فرنسا والجزائر ومدى تأثر الساحة في كل بلد بما يحدث او يتقرر في البلد الثاني، وهي وضعية لا مثيل لها في العلاقات بين بلدين ربطت بينهما في الماضي وضعية الاستعمار، وتربط بينهما اليوم لغة المستعمر، وهذه قضية بالغة الحساسية، وتتجاوز اهميتها اهمية العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

والواقع هو ان هناك من يخشى، عن حق، النتائج الثقافية لزيارة الرئيس شيراك، وكانت رسالة رئيس لجنة الدفاع عن اللغة العربية المفتوحة واضحة في هذا المجال، رغم خطأ الاكتفاء بنشرها باللغة العربية، في حين كان يجب ان تنشر باللغة الفرنسية، حتى في الصحف العربية، بعد ان رفضت الصحف الناطقة بالفرنسية نشرها.

ورغم مخاوف كثيرة في ما يتعلق بقضية اللغة الوطنية وحدود التعامل مع اللغات الاجنبية، والفرنسية في طليعتها، فإنني لا اتصور ان بوتفليقة يمكن ان يتجاهل ان قوته الحقيقية تعتمد على التيار الوطني، وهو تيار ملتزم بالانتماء العربي الاسلامي، ولا اتصور انه سيسمح لأي كان بأن ينتزع منه شرف تجسيد هذا الانتماء والدفاع عنه، خصوصا بعد ان تأكد ان كل التنازلات التي قدمها لاستمالة التيارات غير المتعاطفة مع ذلك الانتماء كانت بدون فائدة، اذ انقلب عليه اولئك بمجرد اشارة اصبع او غمزة عين.

ومن هنا اتصور ان اهم نتائج الزيارة هي وضع حد لتيارات او شخصيات كانت تحتكر تمثيل الجزائر لدى السلطات الفرنسية، وأتذكر من بين هؤلاء شخصا ذهب الى حفل في السفارة الفرنسية بدون ربطة عنق، وعندما عاتبه احد زملائه قال له باستخفاف: «انني في بيتي Je Suis Chez moi».

واذا تذكرنا ان بعض تلك التيارات، كانت تستمد قوتها من ورقة الامازيغية، التي فقدتها اليوم بتعديل دستوري جعلها لغة وطنية بدون استفتاء شعبي، واذا تذكرنا ان فرنسا كانت دائما بؤرة المعارضة للحكم في الجزائر، حتى خلال الفترة الاستعمارية، يبدو واضحا ان التوافق بين باريس والجزائر، رغم محاذيره الثقافية، سيمكن القيادة الجزائرية من التفرغ لمهام اساسية شغلت عنها بمعارك جانبية، كثير منها كان معارك مفتعلة.

وربما كان بوتفليقة هو الرابح الرئيسي من الزيارة، التي وقف فيها خلفه وحوله كل الوطنيين، ورغم كل التحفظات المبررة وغير المبررة، واتصور ان هذا سيدفعه الى اعادة النظر في بعض تحالفاته، بعد ان سقطت الاقنعة عن المتاجرين بالشعارات.

وما زال الطريق طويلا امام تحقيق المصالحة الجزائرية ـ الفرنسية، ولكن الخطوات الاولى تبدو مشجعة وواعدة، وأهم ضمانات استفادة الجزائر منها استكمال المصالحة الجزائرية ـ الجزائرية، من منطلق التوفيق لا على اساس التلفيق، وهذا ما قد يفسر ان خصوم المصالحة الوطنية كانوا في طليعة من جسدوا نفورهم من زيارة شيراك.

ويبقى على الوطنيين، كل في ميدانه، التحلي باليقظة وبالحذر، لأن الجانب الآخر متوقد الحيوية منسق الجهود.