كيف نطرح مسألة الحداثة وما بعد الحداثة؟

TT

لا اعرف ما الذي يقصدونه بنقد العقل العربي. وأعتقد ان طرح الامور من هذه الزاوية يؤدي الى الالتباس والغموض اكثر مما يؤدي الى توضيح المشاكل وتشخيصها. فلا يوجد عقل عربي، او عقل تركي، او عقل فرنسي، وانما يوجد عقل بشري واحد. ولكن هذا العقل يمر بعدة مراحل من حيث التطور: كالمرحلة اللاهوتية ـ الغيبية، او المرحلة الميتافيزيقية، او المرحلة العلمية الوضعية. وبالتالي فالسؤال المطروح هو: في أي مرحلة يعيش العقل العربي حاليا يا ترى؟

هل يعيش في المرحلة اللاهوتية ـ الغيبية، ام انه تجاوزها ووصل الى المرحلة العلمية الوضعية كما حصل للعقل الاوروبي بشكل عام؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي طرحه منذ البداية. وبناء على الاجابة عليه يمكن ان نشرع في عملية النقد. ففلاسفة الغرب منخرطون حاليا في نقد عقل الحداثة العلمية والرأسمالية ـ التكنولوجية، ويعتبرون ذلك مهمتهم الاولى. فهل نحن يا ترى بحاجة الى هذا النوع من النقد؟ وهل العقل العلمي الحديث هو الذي يهيمن على مجتمعاتنا العربية ـ الاسلامية لكي ننقده ونصححه؟ أم ان العقل الذي يهيمن علينا منذ زمن طويل ولا يزال هو العقل اللاهوتي ـ الغيبي؟

وبالتالي فإن مشروع المستقبل ينبغي ان يتخذ العنوان التالي: نقد العقل اللاهوتي الغيبي لأننا لم نخرج بعد من هذه المرحلة كما حصل في أوروبا. وأكبر دليل على ذلك الانتشار الكثيف والضخم للحركات الاصولية المتزمتة. ان مجرد طرح الأمور على هذا النحو يبين لنا حجم التفاوت التاريخي بين الفكر العربي/ والفكر الاوروبي او الغربي بشكل عام. فما يشغلنا حاليا كان يشغلهم قبل مائتين او ثلاثمائة سنة. إني اعترف بأن طرح الأمور على هذه الشاكلة يبدو مهينا بالنسبة لنا نحن المثقفين العرب. فليس من السهل علينا ان نقبل بفكرة تأخرنا عنهم كل هذه الفترة الطويلة.

ولكن ماذا نريد بالضبط؟ هل نريد ان نواجه الحقيقة المرة كما هي أم نريد ان نشيح عنها بأبصارنا وندفن رؤوسنا في الرمال كما تفعل النعامة التي تعتقد أن الخطر غير موجود لمجرد انها لا تراه؟ هل نريد ان نواجه الأمور وجها لوجه أم لا؟ ان الكثير من الغموض السائد في الساحة الثقافية العربية يعود الى عدم الجرأة او القدرة على طرح الأمور بشكل دقيق واضح. وهكذا يختلط الحابل بالنابل وتسود الفوضى الفكرية، ولا نعود نعرف أين تكمن مهمتنا الاساسية. هل تكمن في نقد الحداثة والانتقال الى ما بعد الحداثة كما يتوهم بعض المثقفين العرب؟ أم تكمن في نقد التراث الغيبي الذي يشمل شرائح واسعة من السكان، بل حتى شرائح لا بأس بها من المثقفين انفسهم والانتقال الى مرحلة الحداثة؟

هل مهمتي هي نفسها مهمة المثقف الفرنسي او الالماني يا ترى؟ أم انها تتشابه مع مهمة المثقف التركي والايراني والباكستاني... الخ؟ في ما يخصني، الجواب واضح جدا. فنحن في العالم الاسلامي ككل، وعلى الرغم من خصوصيات كل منطقة لغوية ـ جغرافية، نواجه نفس المشكلة الا وهي: نقد العقل اللاهوتي تمهيدا للانتقال الى العقل العلمي او الفلسفي. ولكن ذلك لا يعني القضاء على الدين، وانما الفهم العقلاني والفلسفي للدين. انه يعني الفهم المستنير لتراثنا الديني العظيم.

أما مهمة المثقف الالماني او الفرنسي فتكمن في نقد العقل العلمي والتكنولوجي البارد: أي عقل الحداثة الذي كان قد جرَّبه وعاش في ظله طيلة مائتي سنة. بالطبع اذا كنت استطيع كمثقف عربي ان أقوم بالمهمتين معا، اي بنقد العقل اللاهوتي وعقل الحداثة الكلاسيكية، فسوف يكون ذلك افضل. ولكن في الحالة الراهنة للأمور فإن المهمة الاولى هي الملحة والعاجلة. لماذا؟ لأن عقل الحداثة ليس هو السائد في بلادي وليس هو الذي يقمعني، وانما الذي يقمعني هو العقل اللاهوتي الغيبي المهيمن منذ مئات السنين. انه عقل متحجر، جامد، لا يقبل النقاش. وبالتالي فما يهمني الانتقال الى عقل ما بعد الحداثة لأني لم انتقل الى عقل الحداثة اصلا!

ما هو سبب هذا التفاوت التاريخي يا ترى بين العالم الاوروبي او الغربي من جهة والعالم العربي او الاسلامي من جهة أخرى؟ لماذا تقدموا وتأخرنا؟ لماذا حصلت كل تلك الفجوة الرهيبة أو الهوة السحيقة التي تفصل بينهم وبيننا والتي لا نستطيع ردمها او تقليصها في المدى المنظور؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي ان يطرح. وأنا لا آتي بشيء جديد اذ اقول ذلك. فالواقع اني أكرر، للمرة الألف ربما، نفس السؤال الذي طرحه المثقفون العرب في عصر النهضة وما بعده بأشكال شتى. وسوف نظل نطرحه حتى نستطيع تحقيق التقدم المنشود او الخروج من مرحلة الانحطاط والتخلف التي نتخبط فيها.

يرى بعض الباحثين المختصين في الدراسات العربية والاسلامية ان الفكر العربي الاسلامي كان متفوقا على الفكر الاوروبي المسيحي وأستاذا له حتى نهاية العصور الوسطى: اي حتى القرن الرابع عشر. بعدئذ انعكست الآية تماما، واصبحوا هم يتقدمون ويحققون الاكتشافات تلو الاكتشافات ونحن نراوح في مكاننا. واستمر الأمر على هذا النحو عدة قرون: اي حتى نهاية القرن الثامن عشر تقريبا. طيلة كل هذه الفترة الطويلة التي كانت تسيطر فيها الامبراطورية العثمانية على مقدرات العالم العربي والاسلامي انقطعنا عن حركة الحضارة والترجمة والاكتشاف العلمي او الابداع الفكري والفلسفي.

ويرى بعض المختصين ان المسلمين لم يترجموا الا كتابا واحدا في علم الطب طيلة كل تلك الفترة الطويلة، وكان ذلك في نهاية القرن الثامن عشر! وهو كتاب اوروبي يعود الى القرن السادس عشر، وكان قد ترجمه احد الاتراك وقدمه الى السلطان محمد السادس عام 1655. وربما لم يترجموا اي كتاب في الفلسفة او في علم الفيزياء ولم يسمعوا بنيوتن ولا كانط، ناهيك من غاليليو وديكارت. ما الذي كان يفعله المسلمون طيلة كل هذه القرون التي صنعت الحداثة في اوروبا؟ ما الذي كان يفعله مثقفو الامبراطورية العثمانية؟ لا شيء. موت، همود كامل، وانقطاع كامل عن ركب الحضارة. ولم يشعروا بذلك الا بعد زمن طويل. وعندما استفاقوا على الوضع في القرن التاسع عشر كان ركب الحضارة قد سبقنا بسنوات ضوئية! وكانت استيقاظة اهل الكهف!

هذا هو سبب التفاوت التاريخي بيننا وبينهم. صحيح اننا انخرطنا بعدئذ في مرحلة النهضة والترجمات العديدة، ولكن الهوّة كانت قد اصبحت شاسعة واسعة بين تقدمهم وتأخرنا الى درجة اننا لم نستطع اللحاق بهم. ولا نزال نلهث حتى الآن.

في الماضي كان العرب المسلمون قد شكلوا حضارة رائعة عن طريق صهر كل الحضارات السابقة في بوتقة واحدة. وكانوا قد انخرطوا في حركة الترجمات الكبرى التي وضعت تحت تصرف القارئ العربي معظم علوم اليونان، والفرس، والسريان، والهنود... ولكن هذه الحركة توقفت بعد القرن الثالث عشر، وظلت متوقفة او شبه معدومة حتى القرن التاسع عشر. خلال هذه القرون الستة التي نمنا فيها على التاريخ كان الاوروبيون يشتغلون ويبدعون في المجالات كافة. يكفي ان نذكر اسماء المفكرين الكبار او الاحداث الكبرى التي حصلت في اوروبا آنذاك لكي نعرف سبب الفجوة العميقة التي حُفِرت بيننا وبينهم.

في القرن السادس عشر حصلت النهضة الاوروبية التي عكست موازين القوى بيننا وبينهم. فقبل ذلك كنا نحن الاساتذة وهم التلامذة. واما بعد ذلك فقد سبقونا وخلَّفوا وراءهم التراث العلمي والتكنولوجي والثقافي للعالم الاسلامي. لم يعودوا بحاجة اليه لأنهم تجاوزوه بدءا من تلك اللحظة. في ذلك القرن ظهر كوبرنيكوس وأحدث ثورته المشهورة في مجال علم الفلك. وظهر ايضا لوثر وأحدث ثورته اللاهوتية المعروفة تحت اسم: الاصلاح الديني.

واما في القرن السابع عشر فقد رسخ الاوروبيون تفوقهم علينا اكثر فأكثر. ففي نصفه الاول ظهر كيبلر، وغاليليو، وديكارت وتم تأسيس العلم الحديث. وهو حدث تاريخي لا مثيل له. وقد أدى الى إلغاء كل العلم السابق، اي علم ارسطو، وبطليموس، وجالينيوس... الخ وبالتالي العلم العربي الكلاسيكي. وفي النصف الثاني من القرن السابع عشر حدثت ثورة أخرى لا تقل خطورة وأهمية: الا وهي تأسيس التفسير التاريخي للنصوص المقدسة. وكان ذلك على يد الفرنسي ريشار سيمون، والفيلسوف الهولندي سبينوزا. وبدءا من تلك اللحظة اندلعت تلك الأزمة الشهيرة للوعي الاوروبي مع تراثه اللاهوتي الغيبي. وهي الازمة التي شغلت كبار فلاسفة العقلانية والتنوير بدءا من سبينوزا ذاته، ومالبرانش، ولايبنتز، انتهاء بكانط وهيغل بعد المرور بفولتير وروسو وديدرو وعشرات غيرهم. ولم يستطع فلاسفة اوروبا حل مشكلة الصراع المندلع بين العقل العلمي والفلسفي الصاعد، والعقل اللاهوتي الغيبي الراسخ الا بعد معارك طاحنة استمرت على مدار مائتي سنة.

وهي نفس المشكلة التي تشغلنا نحن المثقفين العرب حاليا، ومن المتوقع ان تشغلنا طيلة العقود المقبلة من السنين. انها مشكلة المشاكل، أم المشاكل. وبناءً على حلها سوف يحسم المصير التاريخي للشعوب العربية والاسلامية. وفي القرن التاسع عشر انتصرت الفلسفة العلمية بشكل كامل وانتصرت على اللاهوت المسيحي الغيبي وظهرت اسماء كبيرة من امثال اوغست كونت، او دوركهايم، او ماركس، او ماكس فيبر، او فرويد... الخ. وفي القرن العشرين حصلت ثورة علمية جديدة لا تقل خطورة عن ثورة غاليليو ونيوتن، بل تجاوزتها وهي: نظرية النسبية لآينشتاين، ونظرية الكمّات الدقيقة او الميكانيك الكمي والميكانيك الموجي. وظهرت بعدئذ ثورة علم الاحياء والوراثة... الخ، ولا نستطيع ان نعدد اسماء العلماء والفلاسفة الكبار الذين ظهروا في هذين القرنين الحاسمين: التاسع عشر والعشرين. ثم يستغربون: لماذا يوجد تفاوت تاريخي بيننا وبينهم؟!.. لماذا تقدموا وتأخرنا؟!