صناعة الضغوط

TT

يحتاج كل نظام، إلى ضغوط داخلية أو خارجية، تطرأ عليه عندما يشتد به الجمود، ويتحول إلى صنم، يطل بأصحابه، على جاهلية متورمة. وتلعب هذه الضغوط دور الروح للنظام، إذ تمكنه من عمليتي التبلور والتشكيل الدائمين. ولا تهم تلك الأسباب الدفينة أو الأخرى المباشرة، التي تؤدي إلى صناعة الضغط، بنحو يجعل من حديثنا عن صناعة القرار، أمرا مقبولا ومنطقيا.

وإذا كان لصناعة القرار مؤسسات وفاعلون، يشار لها ولهم بالبنان، وبالاسم، وباللقب، وبالعنوان، فإن صناعة الضغوط تخضع إلى طرائق يستند بعضها إلى ما هو ملموس، وتستمد بقية الطرائق، طاقتها من قوانين خفية، ينطبق عليها القول الرائج: ما خفي كان أعظم.

واللافت للنظر أن القوانين الخفية، التي تسهم في صناعة الضغط، تقتات من اللامتوقع، ومن ثنائية الإرادة، والإرادة المضادة، ومن دفاع التاريخ عن مسار جدليته، التي كثيرا ما يعاودها الحنين إلى المنعرجات.

ويشهد النظام العالمي، الذي نتحرك تحت ظلاله، أو ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، في هذه الفترة، حالة مخاض يمتزج فيها عسر الولادة بيسر ما بعدها. بل ان مشاريع التصدعات التي بصدد الوقوع، تعلن عن طور جاد من المراجعة يعيشها النظام العالمي الجديد إلى حد الآن، بشكل يرضي، في شعوب العالم الثالث، شيئا من يقينها. ولئن كانت التصدعات المقصودة تبدو في ظهورها وكأنها مرحلة تدهور بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، فإن هذه التصدعات ذاتها، تمثل لحظة إنقاذ بالنسبة إلى مكونات أخرى من الأنظمة التحتية المكونة للنظام العالمي الجديد. والكل يعلم أن رهان مشروع النظام العالمي الجديد على المنظمات كمكون أساسي، لم يكن بالرهان البسيط، أو الثانوي. ونظرا إلى قوة هذا الرهان، فقد خضعت المنظمات الدولية إلى عمليات مسخ، وتوظيف، وتحولت من أنظمة تحتية قائمة الذات في المجتمع الدولي، إلى أدوات في حفنة الأيادي الطويلة.

ويبدو أن المخاض والضغوطات الحاصلة اليوم، وضعت هذه المنظمات امام لحظة تاريخية، هي لحظة الإنقاذ، لاستعادة قدر من الموضوعية والمصداقية الذي من دونه لا معنى حقيقيا، وقانونيا، لهذه المنظمات. ولا يخفى على احد ان منظمة الأمم المتحدة، قد نالت كثيرا من الشتم، ومن السب، ومن الإنكار، من طرف بلدان العالم الثالث، وكل الدول التي لا تتمتع بحق «الفيتو»، إلى درجة أنها تحولت في المخيال السياسي المعاصر لبعض الشعوب إلى جهاز معاد، وعديم الجدوى، وكثير الأذى، بل انها اتخذت صورة الببغاء الذي يترجم نيات الولايات المتحدة الأمريكية ومقاصدها. مع العلم أن منظمة الأمم المتحدة بسلبيتها، وخدمتها غير المشروطة والخالية من الاحتجاج والرفض لمطالب واشنطن، قد عملت على إيذاء امريكا بشكل غير مباشر، تماما كما يواجه الوالدان اللذان يستجيبان لدلال ابنهما الزائد بتهمة الإساءة إليه، وبأنهما قد صنعا منه مشروع فرد منحرف، أو كائن مفرط الأنانية.

ولكن هل استشعرت منظمة الأمم المتحدة أهمية اللحظة التاريخية التي تمر بها، والتي بتوخي أداء موضوعي يمكن أن تكون لحظة إنقاذ حقيقية، تستفيق منظمة الأمم المتحدة على أثرها، لتمارس دور فاعل دولي، لا أداة، تحركها الأصابع كيفما اتفق.

من الواضح، أن الضغوطات التي يعيشها النظام العالمي الجديد أغدقت على منظمة الأمم المتحدة، شروط تحقق لحظة الإنقاذ. من ذلك أن الجميع أعلنوا الولاء لقرار مجلس الأمن 1441، والكل يحسب ألف حساب لمحاولات الخرق، والتجاوز، وحتى وزير خارجية فرنسا كشف عن ثقة بلاده الكاملة، في مجلس الأمن، وتقديرها لجهود هانس بليكس ومحمد البرادعي. ويشير مثل هذا الكشف إلى أن العلاقات بين بعض مكونات النظام الدولي، شرعت في إرساء مفاهيم ذات طابع أخلاقي تتعلق بالثقة، والموضوعية، والمصداقية، وبالعمل من أجل السلام، مما يفيد بأن النظام العالمي الجديد، يجري الآن اختبارا أخلاقيا لإسقاط المنظومة الأخلاقية التي أفرزها التوجه الأحادي للمصلحة. وهذا الاختبار نفسه سيوضح للعالم، مدى قدرة منظمة الأمم المتحدة على إصدار قرارات وعلى حماية الأطراف، التي تستجيب لقراراتها. فالعراق بذل إلى حد الآن جهدا إيجابيا للاستجابة إلى القرار 1441، ولذا من المنطقي أن تكون منظمة الأمم المتحدة في مستوى القرار الذي أصدرته، وكي تكون كذلك فإن المطلوب منها أكثر بكثير، مما تنبئ به بعض التصريحات المنشورة في وسائل الإعلام.

وربما الخوف الكبير الذي ينتظرنا، والذي بتحققه سيسقط مجلس الأمن في المكر السياسي، هو أن يتم تجريد العراق من الصواريخ ومن أسلحته، لينتهي فريسة سهلة، للولايات المتحدة الأمريكية، وبهذا سيكتشف الملتفون حول مجلس الأمن، الذي يمثل خشبة نجاة للسلام، ان الدور الخفي لمجلس الأمن يتمثل في تجريد الضحية من جلدها، ومن عظامها، لتكون يسيرة الأكل، والمضغ والهضم. إن المنطق، يوجب على الأمم المتحدة أن تكون قادرة على حماية العراق إذا كانت راضية عن استجابته لمقتضيات القرار1441. والجولة الأولى من الاختبار تتعلق بمدى انصياعها، لاستصدار قرار ثان، يجيز استخدام القوة، وهو قرار عبر أكثر من طرف، عن عدم الحاجة اليه!

إن قدرة مجلس الأمن جرتها الضغوطات الجديدة، وخاصة منها جبهة السلام التي تمثلها فرنسا وألمانيا وروسيا، وأيضا مسيرات السلام التي اجتاحت العالم. فتلك الضغوطات المحرجة، وغير المتوقعة، جرت مجلس الأمن لاختبار قدرته، وقوة فعله، كطرف أساسي في النظام العالمي. لذلك، فإن أول الأطراف الدولية المطلوب منها أن تكون في مستوى القرار 1441 هو مجلس الأمن الفاعل الظاهر لهذا القرار. وأي خلل في أداء منظمة الأمم المتحدة سنفهم منه ان مجلس الأمن قد استصدر قرارا لم يكن يتوقع الاستجابة له، الشيء الذي جعله لا يفكر في ما بعد الاستجابة، لا سيما أن التشويش الذي مارسته كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا على سير القرار، يتناقض مع أبجديات العمل السياسي الدولي، وينضوي تحت راية الضغوطات المضادة. أما الخبر الذي أوردته صحيفة «التايمز» البريطانية بشأن حصولها على وثيقة سرية مؤلفة من 60 صفحة أعدتها الأمم المتحدة، لرسم خطة سرية لتشكيل حكومة في العراق بعد الإطاحة المحتملة بنظام صدام حسين، فإنه (الخبر) يؤكد بأن كوفي أنان لا يستطيع إلى غير رغبات بوش وبلير سبيلا!

وإذا ما صدق هذا الخبر، فإن منظمة الأمم المتحدة، تكون الآن بصدد المشاركة في مسرحية سياسية خطيرة، في حين أن أطرافا دولية كثيرة تتعامل معها بثقة، وبمسؤولية، وبجدية، حتى لكأن الكرة قد استقرت في شباكها.

ان منظمة الأمم المتحدة تمر بلحظة تاريخية، وهي إما أن تتعامل معها كلحظة إنقاذ، لمصداقيتها التي تهرأت كثيرا، وإما أن تؤكد للعالم، أنها أداة، ومفعول به، ولا علاقة لها، لا من قريب، ولا من بعيد، بدنيا الفاعلين، والمؤثرين، والمنقذين. وبقدر ما سينجح كوفي أنان، في انتهاز لحظة الإنقاذ المطروحة أمامه، بقدر ما سيطبق الشرعية التي بها يبرهن على أن منظمة الأمم المتحدة، كائن شرعي قطع الوصال مع السياسة الشريدة.

amelmoussa@yahoo . Fr