حرب كورية «باردة» وابتزاز نووي خطير

TT

في الوقت الذي تستعد فيه البلاد لحرب مع العراق، هناك ازمة تبدو اكثر خطرا تتبلور في خليج كوريا. فنظام كوريا الشمالية ـ بين أكثر النظم وحشية في العالم ـ استغل فرصة زيارة مساعد وزير الخارجية الاميركي لبيونغ يانغ لإبلاغه انها اقامت مصنعا لتخصيب اليورانيوم، وهو ما يتعارض مع اتفاقية تم الوصل اليها عام 1994 لتجميد برنامجها النووي. ومنذ ذلك الوقت، في شهر اكتوبر (تشرين الاول) الماضي، الغت كوريا الشمالية عضويتها في وكالة الطاقة النووية. واعادت تشغيل مفاعل اعادة تخصيب اليورانيوم في يونغبيون. وستتمكن خلال اشهر قليلة من انتاج مواد نووية صالحة للاستخدام العسكري لانتاج عشرة اسلحة من البلوتونيوم او اكثر سنويا لترسانتها ولنقل البلوتونيوم الى غيرها من الدول المارقة او الجماعات الارهابية. واضافت الى هذه الاجراءات المطالبة بمفاوضات ثنائية مع الولايات المتحدة فقط. وتم رفض التلميحات والاشارات القادمة من كوريا الجنوبية، واعاقت محاولات الدول الاخرى لاقتراح ندوات متعددة.

وتسعى بيونغ يانغ الى اعادة سلسلتين من المفاوضات تمتا قبل اكثر من عقد من الزمن. ففي يناير (كانون الثاني) 1991، توصلت ادارة بوش الاب الى ترتيبات ثلاثية بين سيول وبيونغ يانغ وواشنطن. وطبقا لذلك وافقت كل من سيول وبيونغ يانغ على عدم امتلاك او تصنيع او استخدام اسلحة نووية او الدخول في عمليات لاعادة تخصيب البلوتونيوم والتفاوض حول مجموعة من عمليات التفتيش النووية بين الشمال والجنوب. وفي يناير 1992 سحبت الولايات المتحدة اسلحتها النووية التكتيكية من كوريا.

وبالرغم من هذا التعبير عن النوايا الحسنة، فإن ترتيبات المفاوضات فشلت فورا. فقد رفضت بيونغ يانغ السماح بدخول المفتشين القادمين من كوريا الجنوبية، وحددت عمليات التفتيش بالنسبة للمفتشين الدوليين بالمواقع النووية المعترف بها، وتركت مصنع اعادة المعالجة في يونغبيون بعيدا عن عمليات التفتيش، وهو الموقع الاساسي الذي يثير القلق. وبحلول عام 1992 بدأت كوريا الشمالية في التحرش بمفتشي وكالة الطاقة النووية، وفي مارس (آذار) 1993 رفضت السماح بعمليات تفتيش اخرى.

وبعد سنة اخرى من الجدل غير المثمر والاعتبارات الاميركية بقصف مواقع اعادة المعالجة، فاوضت ادارة كلينتون حول ما اطلق عليه «اتفاقية الاطار». وطبقا لهذه الاتفاقية كان على كوريا الشمالية اغلاق، وليس تفكيك عمليات انتاج اليورانيوم تحت اشراف دولي. ومقابل ذلك تعهدت الولايات المتحدة بعدم استخدام الاسلحة النووية ضد كوريا الشمالية وبناء بالاشتراك، مع اليابان وكوريا الجنوبية مصنع مياه خفيفة، وامداد كوريا الشمالية بزيوت ثقيلة للتدفئة ومصانع الطاقة التقليدية. وبدأت كوريا الشمالية على الفور في كسر الاتفاقيات بتنشيط برنامج سري لتخصيب اليورانيوم في عام 1998. واستمرت في تهديداتها بإسلحة الدمار الشامل بتحليق صاروخ تجارب فوق اليابان.

واذا وضعنا في الاعتبار هذا التاريخ، يصبح من الصعب فهم لماذا تطالب العديد من الدول ـ حتى استراليا الباسلة ـ بإجراء سلسلة جديدة من المفاوضات الثنائية ـ بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية لـ«حل» ازمة هي من خلق بيونغ يانغ بأكملها.

ما تطلبه بيونغ يانع من الولايات المتحدة مقابل الموافقة على اتفاقية قديمة لم يتغير للمرة الثانية هو معاهدة عدم اعتداء بالاضافة الى مطالب سيشكف عنها خلال المفاوضات، والاقتراح مخادع. فأكثر النظم ستالينية في العالم ـ التي تخلت عن اتفاقيات قائمة مع الولايات المتحدة، قتلت نصف اعضاء حكومة كوريا الجنوبية في مؤامرة اغتيالات في رانغون، وخطفت اكثر من 12 من اليابنيين لتشغيلهم في معسكرات السخرة في كوريا (والعديد من ابناء كوريا الجنوبية)، ونسفت طائرة ركاب مدنية تابعة لكوريا الجنوبية ـ ليس من المرجح ان تشعر بالاطمئنان من معاهدة عدم اعتداء مع دولة رأسمالية.

مثل هذه المعاهدة ستمثل اعترافا من الولايات المتحدة انها تمثل تهديدا خاصا يحتاج الى ترتيبات خاصة. لقد حسبت بيونغ يانغ بوضوح انه بعدما وصمت الولايات المتحدة بحقيقة المعاهدة، يمكنها استخدامها لاتهامنا بإنتهاك نصوصها. واي انتشار اميركي في دول قريبة، مثل اليابان او كوريا، واي تحريك اعتيادي للقوات، او ما غيره مما تراه الدبلوماسية الكورية الشمالية يتعارض مع وجهة نظرها سيصبح مبررا جديدا لاثارة جولة اخرى من الابتزاز النووي.

ان مفاوضات ثنائية بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية ستشمل كمينين آخرين. فمع تزايد المشاعر الوطنية في كوريا الجنوبية، فإن اي طريق مسدود ستعتبر الولايات المتحدة هي المسؤولة عنه، وهو ما سيؤدي الى تسميم العلاقات الكورية الجنوبية ـ الاميركية. او يمكن لبيونغ يانغ استخدام المفاوضات الثنائية للظهور بمظهر المتحدث بإسم الوطنية الكورية، ولتهميش كوريا الجنوبية باعتبارها دمية للولايات المتحدة. ان اغراء الولايات المتحدة بالدخول في مفاوضات ثنائية سيؤدي الى تعظيم الوضع السياسي لكوريا الشمالية بينما يقنن وضعها النووي، مما يقدم لها مرونة كاملة بإقل قدر من الالتزامات. وستؤدي هذه المفاوضات الى خلق محفزات للانتشار النووي في اماكن اخرى والى خلق موقف سيعتبر فيه تطبيق اية اتفاقية مسؤولية اميركية، بدون تحمل الدول المجاورة لاية التزامات في ما يتعلق باحترام تطورات تؤثر عليهم تأثيرا عميقا.

ان الحقيقة الاساسية هي استحالة التوصل الى اية حلول وسط بين كوريا الشمالية مسلحة بأسلحة نووية ودولة اخرى لا تملك مثل هذه الاسلحة. اذا خرجت بيونغ يانع من هذه الازمة بقدرة نووية وصاروخية كاملة تدعمها قدرتها على المراوغة، فإن ذلك سيفتح الباب امام انتشار غير مقيد لمثل هذه الاسلحة ولتحديات اساسية للتوازن في شمال آسيا. ان هدف تلك السياسة يجب ان تكون كوريا غير نووية.

ومن بين التحديات الاساسية تحديد اهداف كوريا الشمالية. هل هناك مزيج من الضمانات والمساعدات يمكن ان تغري بيونغ يانغ بمستقبل غير نووي؟ هل توصلت كوريا الشمالية الى ان عليها الاحتفاظ بقدرات نووية لكي تستمر، وفي هذه الحالة ـ فإن مفاوضات ثنائية او متعددة ـ لا بد ان تفشل؟

قبل التوصل الى مثل هذه النتائج، لا بد من اشراك الصين واليابان وروسيا مع كوريا الجنوبية في جهد لحل المشكلة النووية في شبه الجزيرة. ويمكن التوصل الى كوريا منزوعة السلاح بمواجهة بيونغ يانغ بعواقب غير راغبة في مواجهتها. واذا تحملت الولايات المتحدة تلك المهمة لوحدها، فإن احتمال مواجهة عسكرية سيتعاظم لان بيونغ يانغ ربما تعتمد آنذاك على المعارضة في كوريا الجنوبية وتباعد الصين واليابان وروسيا، لابطال تهديداتنا.

تأثرت كل من الصين واليابان بصورة اساسية بالقدرات النووية لكوريا الشمالية وبحصول بيونغ يانغ على ما يمكنها من الابتزاز النووي. ولكن اليابان لن تقف متفرجة عندما تبدأ دولة مجاورة في انتاج وربما تطوير اسلحة نووية، اذ انها ستلجأ اما الى دخول الحقل النووي او زيادة تسليحها بصورة كبيرة او الاثنين معا. أمام بالنسبة للصين، فإن الازمة النووية الدائمة على حدودها ستؤدي اما الى حرب كورية اخرى او الى انهيار حزام كوريا الشمالية او الاثنين معا مع تدفق انهار من اللاجئين عبر نهر يالو. روسيا، بدورها، يجب ان تسعى الى إحباط اي تقدم يمكن ان يعطي دفعة لتطوير المجال النووي، خصوصا في ظل الانظمة غير المستقرة على طول حدودها.

لا توجد دولة متأثرة ازاء ما يحدث مثل كوريا الجنوبية التي تعتبر حليفا للولايات المتحدة. فخلال الازمات السابقة تمسكت كوريا الجنوبية بقوة بالتحالف الامني مع الولايات المتحدة وبنت قوتها العسكرية الهائلة بإقامة تحالف وثيق مع واشنطن، ولكن ابتداء من الفترة الرئاسية لكيم دي جونغ عام 1998، حدثت متغيرات اساسية في اولويات كوريا الجنوبية، اذ ذهبت سيول الى خطوات ابعد بكثير من اي خطوات اتخذتها الحكومات الكورية الجنوبية السابقة ازاء التقارب مع الشمال (سياسة الشمس المشرقة)، وهي سياسة وجدت تأييدا من ادارة الرئيس كلينتون. حاول كيم دي جونغ خلق مناخ نفسي افضل للمسألة الامنية بالتركيز اولا على القضايا السهلة مثل إعادة لم شمل الاسر الكورية والتعاون الاقتصادي.

غير ان بيونغ يانغ لم تطبق اتفاقية إعادة لم شمل الاسر على النحو المطلوب، كما انها لم توجد اي محفزات للاستثمار. إدارة بوش حللت من جانبها استراتيجية بيونغ يانغ على نحو صحيح، لكنها عندما وضعت الخلاصة التي توصلت اليها في نهاية الامر تبددت الآمال إزاء سياسة «الشمس المشرقة». فحكومة كوريا الجنوبية التي جرى انتخابها اخيرا رفضت أي تلميح لضغط عسكري على كوريا الشمالية من جانب الولايات المتحدة، ولكن في ظل غياب مثل هذا التهديد سيكون من الصعب حمل كوريا الشمالية على انتهاج مسلك معتدل. المفاوضات (الثنائية والمتعددة) ستتحول الى مجموعة من المطالب الكورية الشمالية التي ستؤيدها سيول في الغالب في ظل مواقفها الراهنة.

ربما يكون السبب وراء الاهتمام الضئيل لدى كوريا الجنوبية بنزع السلاح النووي من شبه الجزيرة عائد الى اعتقادها في ان نزع سلاح كوريا الشمالية النووي لا يلغي الخطر على سيول بصورة فاعلة. المجموعات اليسارية تتعامل مع اميركا كمصدر للتوتر، فمعارضو الحرب يبررون برنامج كوريا الشمالية النووي كرد على التهديد الاميركي، فيما يرى القوميون هذا البرنامج تأكيدا على الكرامة الكورية. ما يمكن قوله هنا هو ان حكومة كوريا الجنوبية تتخيل نفسها فيما يبدو ليس فقط كدولة حليفة ولكن كوسيط بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة، وتحث واشنطن على هذا الاساس على التوصل الى حل سلمي بشأن البرنامج النووي لكوريا الشمالية، ويمثل ذلك، مع تخلي واشنطن عن الضغوط على بيونغ يانغ، تنازلا للعديد من مطالب بيونغ يانغ.

اما بالنسبة للولايات المتحدة وبقية دول آسيا، فإن مسألة الحد من تطوير الاسلحة النووية تعتبر قضية حيوية. فإذا ثبتت صعوبة التوفيق بين اهداف كوريا الجنوبية والولايات المتحدة، فإن نشر القوات الاميركية في كوريا الجنوبية سيصبح رهينة في يد البرنامج النووي لكوريا الشمالية والمناورات السياسة في كوريا الجنوبية، الامر الذي يتعارض مع وجود علاقات امنية معافاة بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية في ظل انتشار القوات الاميركية على المدى الطويل.

إعادة تقييم التحالف بين سيول وواشنطن وإستراتيجية هذا التحالف باتا امرا ضروريا، لكنه يتطلب ،بالضرورة، تحليلا اكثر عناية للأخطار الكورية الشمالية الحقيقية التي تتهدد سيول. صحيح ان لدى بيونغ يانغ القدرة على إلحاق اضرار هائلة ولكن فقط على حساب زوالها تماما. لذا، يمكن القول ان شبه الجزيرة الكورية باتت تشهد مجددا اجواء الحرب الباردة السابقة. سيبتعد الطرفان عن استخدام القوة القصوى، ولكن يتوجب عليهما التوصل الى استراتيجية دون هذا الحد لحماية المصالح الحيوية. اما وضع الحسابات ذات الصلة بالحد المشار اليه، فتصبح واحدة من مهام السياسة الاميركية تجاه كوريا ومن الافضل ان تكون بالتحالف مع كوريا الجنوبية.

أي استراتيجية جادة ستحاول الوقوف أمام تعصب كوريا الشمالية واستغلالها للمسألة النووية على ان تكون معالجة هذه القضية في إطار تعددي اوسع يعالج الوضع الامني في شبه الجزيرة الكورية بكاملها.

من شأن هذا التوجه ان يتناول اهداف الاطراف كافة مثل المسألة النووية ومحاولة إنهاء عزلة كوريا الشمالية والتعاون الاقتصادي، اذ ان هذا يمكن ان يحدث فقط في سياق وضع تكون كوريا في ظله قد تخلصت من سلاحها النووي.

سيكون دور الصين حاسما ومهما، فبكين لا يمكن إدراجها في هذه الجهود من خلال مناشدات مجردة للمساعدة في سياسة الحد من تطوير الاسلحة النووية. مصالح الصين تتضمن دور كوريا الشمالية كحزام فاصل في مواجهة خطوط الغزو التقليدية والنشر النووي، ليس في كوريا وحدها بل في بقية القارة الآسيوية. تبرز الحاجة الآن الى توسيع الحوار الاستراتيجي الذي بدأ من خلال اللقاءات بين الرؤساء الصينيين والاميركيين. المخاطر كثيرة في هذه الجانب، اذ ان هذا التفاهم اذا لم يتحقق فإن الاستراتيجية الاميركية ستكون اكثر ميلا اما الى استخدام القوة في إزالة المعامل المستخدمة في النشاط النووي المحظور، او الى انتهاج سياسة ردع وهذه ربما تعني اتجاه دول آسيوية اخرى الى الاعتماد على الاسلحة النووية مما سيؤدي الى وضع متوتر عالميا من مصلحة كل الاطراف تفاديه تماما.

من ضمن الطرق التي يمكن من خلالها تحقيق هذه الاهداف عقد مؤتمر حول مستقبل الامن في شبه الجزيرة الكورية بمشاركة الصين وروسيا واليابان والكوريتين والولايات المتحدة. من المحتمل ان يضع مثل هذه المؤتمر المشكلة النووية لكوريا الشمالية في سياق المخاوف التي تشعر بها الدول المشاركة. ليس في مصلحة الصين او اليابان انهيار الكيان السياسي لكوريا الشمالية، رغم ان اختبار بيونغ يانغ الرئيسي في البقاء والاستمرار يكمن في إقامتها لمؤسسات اكثر انسانية. في هذا السياق يمكن لكل المشاركين ان يتخلوا عن خيار القوة في تغيير حدود كوريا الشمالية ويكونون بذلك قد حققوا ضمانة عدم الاعتداء التي تدعى بيونغ يانغ السعي اليها. يمكن ان يؤدي هذا التوجه الى خلق إطار يساعد على دمج كوريا الشمالية في الاقتصاد العالمي. اما مسألة إعادة التوحيد، فيمكن ان تترك للمفاوضات بين الكوريتين، بيد ان كوريا الجنوبية لا يجب ان تصادق على وجود الاسلحة النووية لكوريا الشمالية.

الوقت عامل مهم للغاية، فكوريا الشمالية ربما تتمكن قريبا من انتاج البلوتونيوم على مستوى يصبح متعذرا على المجتمع الدولي في ظله السيطرة عليه بوسائل اخرى غير الاجراءات العسكرية.

* وزير الخارجية الأميركي الأسبق

خدمة «لوس أنجليس تايمز» - خاص بـ«الشرق الأوسط»