ارفعوا السقف

TT

اجتمعت العمامات السوداء مع العمامات البيضاء مع من لا يرتدون العمامات من أمثالي على شاطئ الاسكندرية، اليومين الماضيين، وكانت المناسبة اللقاء الذي نظمته الهيئة القبطية الانجيلية لمناقشة موضوع «المواطنة في الاعلام». الموضوع غير جديد وبحث مراراً من قبل، ولكن الجديد هذه المرة أن الباحثين عبارة عن فرق عمل من شباب الوعاظ المسيحيين وصغار الشيوخ وجميعهم من قرى صعيد مصر.

اجتمع هؤلاء جميعاً في فرق عمل مختلطة تجمع بين القساوسة والشيوخ، وتكلفت كل مجموعة بدراسة المواطنة في احدى الصحف أو المجلات، وذلك باشراف الزميلة المخضرمة أمينة شفيق.

تقدم «الباحثون» بأوراقهم وعرضوها على جموع الحاضرين، الذين كان من بينهم أساتذة في المجالات المختلفة في كل مرة يتقاسم عرض الورقة شيخ وقس. لن أتوقف طويلاً أمام الانتقادات العلمية التي وجهت الى هؤلاء الوعاظ، فهم بالتأكيد ليسوا باحثين بحق ولكنهم مجتهدون، والأكثر أهمية أنهم أكثر من يشكلون الرأي العام احتكاكاً بالجماهير الحقيقية صاحبة الحق الأول في الحياة، وبالتالي فإنهم عندما تعرضوا لمفهوم المواطنة حملوا فهمهم النابع من احتكاكهم الأصيل بمجتمعهم، وما خرجوا به هو عبارة عن صورة تصلح لأن تكون مادة لدراسة، أي أنهم قدموا رؤيتهم لما تقدمه الصحف من خلال فهمهم لما تعني «أن تكون مواطنا». باختصار ماذا تعني المواطنة لهؤلاء البسطاء، جمهور هؤلاء الوعاظ الحقيقي الذين يكونون العمود الفقري للمجتمع.

توقفت طويلاً أمام ملاحظة ذكرها أحد المعلقين منتقداً ما طرحه شباب الوعاظ من أن سقف أحلامهم شديد الانخفاض، إذ أنه يقف عند حدود تحسين الوحدة الصحية في القرية، أو ظلم وقع في تصحيح امتحانات النقل في احدى المدارس، أو عجز المواطنين عن التقدم بشكواهم الى المسؤول في المحافظة. ويستمر المنتقد متساءلاً أين الحديث عن المشاركة السياسية؟ أين المعاناة من غياب الديمقراطية؟ أين المشاركة في الأحزاب وتزوير الانتخابات؟ وقتها شعرت بالتعبير الذي يتردد أحياناً ليصف مثل هذا المنتقد، وهو التعبير الذي يقول «مثقفو المدن»! والذي لا أنكر أنني أضبط نفسي بينهم أحياناً، هؤلاء المثقفون الذين ينعزلون عن الجماهير الحقيقية ـ ان المواطنة كما تعلمتها هذين اليومين تعني لدى هؤلاء الجماهير الحق في الحياة الطبيعية والآمنة بدون تمييز، وهذه هي في الحقيقة أعلى درجات المواطنة ـ حق الانسان في أن يعيش آمناً اقتصادياً واجتماعياً، احساسه بالحق في الحياه هو الطريق الوحيد الموصل للمشاركة السياسية.

المسؤول عن هذا السقف المنخفض لأحلام هؤلاء هو تلك الأنظمة التي تتخلى عن جماهيرها وأحلامهم، وأولئك المثقفون الذين انحصرت مفاهيمهم عند حدود المدينة المرفهة ولم يعملوا من أجل تطوير هذه المفاهيم حتى تكون مفاهيم جماهيرية حقيقية، هؤلاء وأولئك هم المسؤولون عن انخفاض سقف أحلام البسطاء ولا نملك إلا أن نطالبهم «ارفعوا السقف».