أيام فاتت

TT

في هذه الايام التي يتنازع فيها الساسة على نفط كردستان، كانوا في ايام خلت يتنازعون على شيء اطيب وألذ مذاقا، التمرات الناضجة من تمر البرحي. اجتمع نوري السعيد وأرشد العمري، رئيس الوزراء، والأمير عبد الإله في مصيف سرسنك يخططون سياسة العراق. وفيما كانوا جالسين في الحديقة، وصل عثق تمر جديد من البصرة وضعه الخادم على الطاولة امامهم. كانت بعض التمرات قد نضجت والبعض الآخر ما زال خلالا يصعب بلعه.

لم يستطع العمري مقاومة الاغراء وهو من أهل الموصل والبرحي من تمر البصرة. فأخذ يلتقط التمرات الناضجات ويأكلها. ادرك نوري السعيد انه اذا استمر زميله بذلك فلن يبقى من العثق ما يستحق الاكل. لم يعرف كيف يثني صاحبه عن ذلك وهو رئيس الحكومة القائمة. نظر في وجه ضابط الحرس يوسف سليم عسى ان يسعفه في الامر وينقذ التمرات الناضجات من يد أرشد العمري. ولكن ما الذي يجرؤ عليه ضابط صغير امام رئيس الوزراء؟ فدار وجهه نحو الجبال الشاهقة متظاهرا بمراقبتها خوفا من الثوار. لم ينتفع أبو صباح من الضابط فخطرت له فكرة أحسن والعمري ما زال يلتهم التمرات اللذيذات ويرمي بالنوى في الحديقة. نادى على الطباخ مسعود. «مسعود! يا مسعود! تعال هنا!»

جاء مسعود مسرعا والدهن والطحين والطماطم يغطي صدريته. «مسعود اريد اسألك وأنت طباخ وتعرف بالأكل. الناس يأكلون التمر قبل الغدا او بعد الغدا؟» أدرك مسعود ان نوري السعيد يريد جره الى حقل مليء بالالغام. لاحظ رئيس الوزراء يلتهم التمر فأدرك غرض السؤال. اذا قال بعد الغداء، اغضب رئيس الحكومة واذا قال قبل الغداء اغضب السياسي العجوز. بيد ان الطباخ الملكي قضى في خدمة البلاط ما يكفي لمعرفة اساليب الدبلوماسية العربية ومخاتلاتها وتهربها من المسؤوليات. نظر الطباخ السوداني في وجه نوري السعيد وقال: «والله باشا، الناس غسمين. غسم يحبون ياكلوا البلح غبل الاكل وغسم من الناس يحبون ياكلوا البلح بعد الاكل».

لم يستفد نوري السعيد كثيرا من تدخل الطباخ والاستعانة به فقال له: «ولك مسعود قول الصدق! التمر ينكال قبل الاكل او بعد الاكل؟ قول الصدق! لأن احنا ضيعنا حتى طعم حلقنا!»

قال أبو صباح يرحمه الله، بيد ان الحاحه لم ينجح مع دبلوماسية الطباخ السوداني. فلم يجب على السياسي المخضرم بغير ابتسامة سودانية باهتة لا تعني شيئا، تذكرني تماما بتصريحات سعدون حمادي، رئيس ما يسمى بالمجلس الوطني الحالي. قال صاحبي الملازم يوسف، ولكن كلمات نوري السعيد حققت غرضها، فلم يجرؤ رئيس الوزراء بعدها على مد يده الى عثق التمر، ونجت التمرات الجيدات من يديه واسنانه الفتاكة فتقاسمها نوري السعيد وعبد الإله فيما بعد. بيد ان السؤال الحيوي، هل يؤكل التمر قبل الاكل او بعد الاكل بقي معلقا في اطار الدبلوماسية العربية ينتظر من السيد عمرو موسى تدخله لعقد مؤتمر قمة عربية اخرى تتولى مناقشته والوصول الى قرار حاسم بشأنه ليفضي الى توحيد الصف العربي.