المذبحة الإسرائيلية المفتوحة برعاية أميركية

TT

الرئيس جورج بوش نفسه، هو الذي ربط بين الحرب على العراق وحل القضية الفلسطينية، وضع الامور في صيغة ابتزاز تخاطب العرب وتقول: اذا اردتم حلا للقضية الفلسطينية فإن المدخل الى ذلك هو دعم الموقف الاميركي ضد العراق. عرض الرئيس الاميركي مقايضة بين فلسطين والعراق تشبه مقايضات رجال الاعمال حول صفقة مالية، اعطوني هذه الصفقة اتنازل لكم عن الصفقة الاخرى. سابقا رفضت الادارة الاميركية الربط بين قضيتي العراق وفلسطين، كانت تطلب التزاما عراقيا قطعيا بتنفيذ قرارات مجلس الامن، وترفض البحث في امتثال اسرائيل لأي قرار من تلك القرارات الكثيرة ضدها، ونشأ من هنا شعار الكيل بمكيالين، وبما ان العرب لم يمتثلوا لعرض المقايضة الاميركي، واستمروا في موقفهم (الرسمي) الداعي الى وقف الحرب ضد العراق، بل والعمل من أجل منعها، فإن الرئيس الاميركي يواصل عملية المقايضة بالضغط على العرب جميعا من خلال تقديم الدعم للمذبحة الاسرائيلية المتواصلة ضد الفلسطينيين ومن خلال اطلاق يد ارييل شارون في فعل كل ما يراه وما يرغب به للقضاء على «الارهاب» الفلسطيني.

على الجانب الاسرائيلي فإن رئيس الوزراء شارون يهوى الدم، وهو لم يكن ينتظر مباركة بوش وتغطيته لكي يهندس مذبحته، اما وقد جاءته المباركة الاميركية فإنه يستطيع ان يذهب في تنفيذ المذبحة الى آخر مدى ممكن، ويقف الى جانبه وزير دفاعه المتعطش للدم أكثر منه، ويساعدهما رئيس اركانه موشي يعالون، ويشكل الثلاثة فريق حرب ومذابح واغتيالات وعقوبات جماعية، تؤهلهم للمثول امام اقرب محكمة لمجرمي الحرب، لولا ان المباركة الاميركية تشكل طوق حراسة حولهم، وتمنع المجتمع الدولي من اعتقالهم وجرهم الى المحكمة البلجيكية مثلا.

لقد نشأت الانتفاضة الفلسطينية ضد الاحتلال الاسرائيلي، وعملت ثلاثة اشهر من دون اي استخدام للسلاح، وكان منهج الجيش الاسرائيلي في الرد على الانتفاضة المدنية والسلمية، هو القتل اليومي والقتل المفرط المتعمد الى ان وصل عدد الشهداء الفلسطينيين الى 106. كان هدف الجيش الاسرائيلي قتل الارادة الفلسطينية منذ ايام الانتفاضة الاولى حتى لا تتوسع ولا تستمر، ولكن القتل الاسرائيلي انتج عكس ذلك، دفع باتجاه استعمال الفلسطينيين للسلاح البسيط بين ايديهم من اجل القول للجيش الاسرائيلي ان الخسائر يمكن ان تكون متبادلة، ومن اجل القول للجيش الاسرائيلي ان الارادة الفلسطينية لم تكسر.

صعد الجيش الاسرائيلي من عدوانه ومن عنفه ومن تدميره ونشأ ما سمي عالميا «الاستخدام المفرط للقوة»، وهنا نشأت العمليات الاستشهادية. ومهما كان الموقف الاخلاقي من هذه العمليات، فلا بد ان نسجل انها كانت على الارض ردا على تعالي درجة العنف الاسرائيلي المفرط. وهنا بدأت القصة الاسرائيلية ـ الفلسطينية الدقيقة: قال الاسرائيليون انهم مضطرون للقيام بعمليات عسكرية كبيرة للقضاء على هذا النوع من العنف الفلسطيني، وتحت هذا الشعار نفذوا مذابح ضخمة داخل مخيم جنين وداخل مدينة نابلس وداخل مدينة رفح، وجعلوا من الاغتيال والاعتقال وتدمير البيوت سياسة يومية، وزاد عدد المعتقلين الفلسطينيين على عشرة آلاف شاب. وفي الشهرين الماضيين (كانون الثاني ـ شباط 2003) لم تنفذ اية عملية استشهادية، وقال الاسرائيليون ان السبب في ذلك هو سياسة القبضة الحديدية التي لجأوا اليها. واذا اخذنا هذا الادعاء الاسرائيلي كما هو فإن العنف كان حريا به ان يتوقف، فقد تم لهم ما ارادوا، وانكسرت ارادة النضال الفلسطينية، ولكن بدلا من ذلك ولدت حرب اسرائيلية جديدة اشد شراسة، ونفذ الجيش الاسرائيلي في فترة الهدوء الفلسطينية مذبحة متواصلة في قطاع غزة، من دون ان يتوقف القتل والتدمير والاعتقال والاستباحة في الضفة الغربية، وشهد قطاع غزة هجمات متوالية على الشمال والجنوب والوسط، هجمات بالدبابات والطائرات وقصف مركز بالمدفعية وكان عدد الشهداء الفلسطينيين المدنيين يتواصل يوميا من بيت لاهيا الى رفح والعريش وخان يونس ومن الشجاعية الى مخيم البريج. كل يوم يسقط عشرة شهداء ويجرح كثيرون آخرون، وانشغل الفلسطينيون بتشييع شهدائهم وكأن لا عمل لهم سوى ذلك، وبدا واضحا ان الاسرائيليين يريدون التحطيم، التحطيم المادي والتحطيم المعنوي، تحطيم البيوت وتحطيم البشر، وصبر الفلسطينيون ستين يوما، الى ان نفذت العملية الاستشهادية الاخيرة في مدينة حيفا، وأدت الى مقتل 15 مدنيا اسرائيليا وجرح ثلاثين، وكان بعدها ما كان في مخيم البريج.

ما الذي تفعله إسرائيل؟

حين تنشط المقاومة الفلسطينية، تكثف إسرائيل من عملياتها العسكرية من اجل القضاء على هذه المقاومة، وحين تهدأ المقاومة الفلسطينية، تواصل إسرائيل تكثيف عملياتها العسكرية من اجل ان يركع الفلسطينيون امام جيشها، ولا يجب ان يكون الانسان نبيا لكي يستنتج ان لا جدوى من الهدوء مع جيش الاحتلال الاسرائيلي، فهو يضرب ويواصل الضرب سواء كنت تنشط او لا تنشط، فإذا اضفنا الى ذلك الحالة النفسية لأي شاب فلسطيني يشاهد نفسه وأمه واخوته وقد اصبحوا مقيمين على رصيف الشارع، بعد ان تم هدم منزله وقتل ابيه او اخيه او امه، فيقرر في حمى وغليان ذلك الوضع ان ينتقم لمأساته وحزنه وكرامته، وحينها تكون نتائج المذبحة الاسرائيلية قد اكتملت، وهذا هو الذي تسميه اسرائيل ارهابا، وهذا هو الذي تسميه واشنطن حق اسرائيل في حماية امنها، وهذه هي وقائع المقايضة التي يرعاها الرئيس الاميركي لينال من العرب موافقة على ضرب العراق مقابل وقف المذبحة ضد الفلسطينيين.

هل هذا الذي نقوله هنا مجرد رؤية عربية او فلسطينية منحازة سلفا ضد اسرائيل؟ لنستمع اذا الى رؤية اخرى، رؤية غير عربية وغير فلسطينية، يعبر عنها (السير كيرين برندر غاست) وكيل الامين العام للامم المتحدة للشؤون السياسية، لقد قدم السير غاست تقريرا الى مجلس الامن يوم 2003/2/14 انتقد فيه العمليات الاستشهادية (المتوقفة)، ولكنه اضاف:

ـ ان استمرار اسرائيل في تدمير بيوت الفلسطينيين يشكل اجراءات عقاب جماعية تتنافى مع القانون الاساسي والدولي، وتمثل انتهاكا لالتزامات اسرائيل بصفتها قوة احتلال.

ـ وقال: على اسرائيل واجبات معينة حددتها اتفاقية جنيف الرابعة، وللاسف ان اجراءات اسرائيل تتنافى مع مسؤولياتها بصورة متكررة.

ـ وقال: ان اجراءات الاغلاق ومنع التجول تسبب تدهورا في الوضع الاقتصادي، وتعطل عمل الاسرة الدولية.

ـ وقال: اننا نذكر اسرائيل بالتزاماتها وواجباتها بموجب اتفاقية جنيف الرابعة نحو السكان الفلسطينيين.

ـ وقال: منذ تقريري الاخير الى مجلس الامن في 2003/1/16 اي على مدى شهر واحد فقط، بلغ عدد القتلى الفلسطينيين 65 قتيلا، وبلغ عدد القتلى الاسرائيليين 7 بينهم مدني واحد.

هل هناك وصف للمذبحة الاسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني ابلغ من هذا الوصف (البارد) الذي تقدمه الامم المتحدة باعتبارها جهة محايدة؟

هل يمكن قبول المقايضة الاميركية، بوقف المذبحة في فلسطين من اجل تنفيذ مذبحة اكبر في العراق؟

أليس من الاجدى وقف المذبحة الاسرائيلية المفتوحة، ليصبح من الممكن مخاطبة الشباب الفلسطيني بتنظيم عمليات مقاومة «أخلاقية»؟