جميلات لكن حزينات

TT

إذا كان هناك فيلم تنطبق عليه عبارة «للنساء حصرا» فهو فيلم «الساعات» الذي تقاسمت بطولته ثلاث نجمات، كل واحدة منهن في التمثيل والجمال الخاص الذي له بصمة ونكهة قصة لوحدها، فإذا أضفت الى ذلك ان الرواية لفرجينيا وولف طليعة النسوية الغربية وبواكيرها ادركت ان جمعهن معا لا يمكن ان يتم إلا لهدف نسوي عميق.

فرجينيا وولف قامت بدورها نيكول كيدمان التي جاء طلاقها سعدا عليها، فمنذ ان انفصلت عن «توم كروز» تألقت في عدة أفلام اشهرها «الطاحونة الحمراء» الذي رشحها كـ«الساعات» لجوائز كثيرة. وفي دورها هذا لا بد ان تقر بقدرة الماكياج على صناعة الأعاجيب، فقد حولها أساتذة هذا الفن الى نسخة طبق الاصل من الكاتبة البريطانية التي انتحرت غرقا في منطقة «ساسكس»، وتوقيت انتحارها هو زمن الفيلم، فنحن أمام نسوة الاربعينات والخمسينات اللواتي لخصت فرجينيا همومهن في رواية «مسز دالوي» وهي ليست الأفضل بين أعمالها، لكنها كانت الأساس الذي نهض عليه ذلك الفيلم الدافئ.

والفيلم عن مشاعر لا يعرفها الرجال لانهم لا يحبلون ولا يلدون، ولا يُسجنون قسرا في البيوت مع أطفال صغار ليس أمامهم فرصة للنجاة دون أمهات مضحيات، لكن احيانا نجد نموذج الأم التي لا تحتمل ذلك الوضع، وهو على ندرته لا يتيح لصاحباته ذرة من التعاطف على عكس ما يحدث في الفيلم، فأنت وبعد ان تعرف ان خيار الأم التي قامت بدورها «جوليان مور» كان بين الحياة والموت، واللاتي تضعهن الظروف امام تلك الخيارات يخترن دوما الحياة المتحركة هربا من مصير الجميلات الوديعات الحزينات الصامتات.

لقد كانت «جوليان مور» بكل إثارتها وشبقها الذي يسبق نظراتها بمترين ليكتسح كل من أمامه انثى شبه ميتة، قد انسجمت بدور مسز دالوي بطلة الرواية وكنا نراها «بمريول» مطبخ لم يتغير طيلة الفيلم إلا حين قررت ان تعطي نفسها اجازة، فوضعت ولدها عند مربية أطفال، وذهبت الى فندق لا لتقابل عشيقا يغسل عن نفسها الكبت والملل انما لتغير ذلك الجو القاتل الذي تنام عليه وتصحو ويزيدها يوما بعد يوم غما بعد غم.

وفيلم الساعات يتحرك بين ثلاثة اقطاب، المؤلفة فرجينيا وولف، وبطلتها مسز دالوي، ثم المرأة الثالثة ميريل ستريب التي كانت ترعى الولد الملفوظ الذي فقد حنان الأم، وصار مثلها يفتقر للتوازن النفسي، وينتهي بالانتحار قبل سويعات من انتهاء تحضيراتها للاحتفال بعيد ميلاده.

ومع انهن جميعا جميلات، بل وشاسعات الفتنة شاء الفيلم اخلاصا للرواية ان يقدمهن بدور النساء الناضجات المثقلات بأعباء الحياة واللواتي لا يجدن تعاطفا إلا من نسوة قليلات حولهن يعرفن عمق عذاب المرأة الوحيدة الموزعة بين «الواجب والواجب» وليس بين الحب والواجب، فليس هناك علاقات مرئية مع رجل، بل على العكس من ذلك، فكل واحدة من النساء الثلاث تقبل واحدة ممن حولها من المقربات اللواتي يفهمن عمق معاناة بنات جنسهن.

والقبلات كما تلاحظها في السياق ليست شهوانية، ولا فيها آثار الرغبات المعروفة للمثلية الجنسية، حيث السحاقيات بمبالغاتهن في التحدي، ورغبتهن في التعويض يكثرن من اللظى المحموم فكل ما في الأمر، انك تشاهد قبلات عميقة فيها من الامتنان للفهم والتعاطف ومن الأخوية النسوية المتآلفة اكثر مما فيها من آثار الشبق المعتاد الذي نعرفه بين المثليين، والأسوياء بدرجات متفاوتة.

قبل هذا الفيلم وهذه الرواية لم اكن اصدق بوجود عالم خاص وسري للنساء لا تعرفه غير المرأة، ولا يسمح بدخول عوالمه للذكور. أما بعد «الساعات» فقد اهتزت تلك القناعة فهناك كما يبدو ذلك الملكوت النسوي الذي لن نفهمه بما يليق به من عمق ان لم يكن فينا «جينات» خاصة، وان لم نكن قد «مررنا» بتجربة مراقبة الزمن وهو يتسرب كالرمل الناعم من بين الاصابع تاركا لنا بعد رحيله الوحدة، والخواء العاطفي وألم الدوران الى ما لا نهاية في دائرة مفرغة كأبقار السواقي والنواعير التي يخففون معاناتها بوضع «طماشات» سوداء على عيونها كي لا تجن من تكرار الدوران في ذلك الخواء الرهيب.

مع النساء المربوطات الى أقدار ثابتة لا تتغير إلا بمعجزات لا شيء يستر المعاناة عن العيون الأنثوية المدربة لذا يتجمد الألم في الحدقات الواسعة، ويتحرك الامتنان غريزيا باتجاه اللواتي يحرسن بصمت ويتعاطفن بحنان مع ذلك النوع من الألم الأنثوي الخفي الذي يندر ان يعرفه أو يلاحظه الرجال نظرا لقيام غريزة الأمومة بإخفائه بعناية عن العيون العادية التي لا تملك القدرة ولا الرغبة ـ أحيانا ـ للنفاذ الى الجوهر والصميم الحميم.