الجبهة الغربية

TT

قبل ان تشتعل الحرب على الجبهة العراقية، اندلعت على الجبهة الاميركية ـ الاوروبية. اميركا تريد «تحرير» العراق من النظام الحاكم، واوروبا «القديمة» تريد تحرير نفسها من الفوقية الاميركية التي تعامل القارة الأم وكأنها رقيب اول في جيش من الضباط. اوروبا تريد ان تكون اولى بين متساوين، واميركا تعتبر المطالبة بالمساواة انتقاصاً من تفوقها العسكري والمالي والتقني، في الفضاء والأجواء وعلى الارض. اوروبا تريد عالماً او اسرة دولية يكون فيها للأخ الكبير دور الاخ الكبير. واميركا تريد اسرة ابوية فيها رأي واحد ومجموعة ابناء، مهما اختلفت الارحام. اوروبا تنظر حولها فترى الصين مقبلة والهند قائمة والاسلام كونياً، واميركا تريد ان تتطلع لا ترى احداً سواها. فالصين المقبلة تهديد لها، والهند الكبرى تحدٍ لها، واوروبا الموحدة خطر على اوحديتها، والاسلام هو القوة العقائدية الوحيدة التي تشمل حوالي نصف الارض.

لذلك، الحرب حول العراق ليست حرباً حول العراق. ليس، بالأصح، فقط حول العراق. فكل فريق وجد في المواجهة الحالية فرصته الكبرى لأن يخوض ضد الآخر كل حروبه. والحرب الصامتة التي بدأتها صحف بريطانيا والحكومة الفرنسية والمانيا بادئ الامر، هي حرب محاولة الانفلات او الانعتاق من الوصاية الاميركية التي تشبه الاوامر العسكرية. فالاميركيون هم الذين جروا الاوروبيين معهم الى افغانستان، شاءوا ام ابوا، فيما دفع الاوروبيون 700 مليون دولار من اصل 900 مليون، كما يقول كريس باتن. واذا نقبنا قليلاً في الاشياء نتطلع مذهولين عندما نجد ان اسبانيا هي الدولة الوحيدة الذاهبة الى الحرب مع اميركا، من بين الاوروبيين القدامى. لكن فلنعد قليلاً الى جزيرة ليلى المغربية ونتذكر ان الجنرال كولن باول حمل نفسه، وجاء للتوسط بين الرباط ومدريد من اجل جزيرة يكثر فيها البقدونس، في حين ان سلفه المستر جيمس بيكر لم يحرك شيئاً حتى الآن في قضية الصحراء. للدول اسرارها الصغرى والكبرى، كما تعرفون.

لكن ما بين فرنسا والمانيا من جهة واميركا من جهة اخرى يتخطى بكثير الجزر الصغيرة. يتخطاه الى الرغبة في «التحرر» من الخطاب الاميركي الذي لا يزال يمنن الدولتين بأنه لولا الدور الاميركي لكانتا الآن في ظل الحكم النازي او السوفياتي. وقد عاشت اوروبا نصف القرن الماضي وهي في كنف المظلة النووية الاميركية التي كانت تقول انها تحميها من الخطر السوفياتي، ولذلك بنى ديغول القوة الضاربة الفرنسية لكي لا تبقى بلاده في حماية احد. وكان يقول دائماً، ماذا يحصل غداً اذا تصالحت موسكو وواشنطن؟ وهذا ما حدث بالفعل.

تريد اوروبا ان يكون لها سياسة خارجية مستقلة عن «المبادئ» التي يضعها الرؤساء او المسؤولون الاميركيون. فالجنرال كولن باول الذي اعتبر لفترة انه ممثل الحمائم في ادارة بوش الابن هو في الحقيقة اول من وضع مبدأ محاربة «الدول المارقة» عندما كان لا يزال رئيساً للأركان العام 1989. ويومها اعلن انه مع زوال الخطر التدريجي، بعد سقوط جدار برلين، لا بد من العمل «لمواجهة الاخطار الاقليمية» المتمثلة في الدول المعادية لأميركا والمالكة اسلحة الدمار الشامل. وكان بين تلك الدول يومها العراق وايران وكوريا الشمالية وليبيا. وقد رفع اسم الاخيرة من اللائحة التي اصبحت فيما بعد «محور الشر»، بعد الوساطة التي ادت الى حل قضية لوكربي.

فيما كانت اميركا تضرب طوقاً من الحصار حول ايران، كان الاوروبيون يعملون على تحسين العلاقة معها. فهم يرون ان الانفتاح على طهران هو الذي سيدفعها الى «الاعتدال» وليس المواجهة. كذلك اعلنوا غير مرة ان العقوبات على العراق فقدت جدواها واصبحت تضر بالعراقيين لا بالنظام. لقد افترق الاوروبيون والاميركيون حول قضايا كثيرة، من كوسوفو الى اوسلو الى افغانستان، لكن كان عليهم في النهاية الانصياع. اليوم يبدو ان المفترق اصبح حقيقياً، والدروب مختلفة.