ظلال في معركة القطبية الواحدة

TT

من مفارقات الصراع الحالي حول العراق، وهو في جوهره محاولة من الولايات المتحدة لإدخال العالم عهد القطبية الواحدة، ان المعركة الدبلوماسية تبدو محكومة الى حد بعيد بدول من العالم الثالث، الذي لا حول ولا قوة له في عالم الكبار.

فحتى يوم الثلاثاء الماضي، وقت كتابة هذا التحليل، حسمت عشر دول من اعضاء مجلس الامن الخمس عشرة مواقفها، وبقيت خمس، ثلاث منها افريقية هي: انغولا، وغينيا والكاميرون، والاثنتان الاخريان من امريكا اللاتينية وهما: المكسيك وتشيلي. وهكذا تعود القارة الافريقية وامريكا اللاتينية الى بؤرة الاهتمام ويتسابق المسؤولون الفرنسيون والبريطانيون والامريكيون لكسب تأييد واصوات هذه الدول.

وهذا التسابق لا يرجع الى ايمان بضرورة استصحاب الارادة الدولية والحصول على تفويض من مجلس الامن، وانما لتوفير الغطاء الدبلوماسي اللازم الذي يمكن بريطانيا، وتحديدا رئيس وزرائها طوني بلير من الصمود في وجه العاصفة التي كادت ان تكلفه مستقبله السياسي خاصة بعد التهديدات بالاستقالة من بعض معاونيه امثال الوزيرة كلير شورت، وهو ما سيكون له انعكاساته اذ يعيد انتاج ازمة السويس تحت ظلال واضواء جديدة. ولهذا تم تأجيل طلب التصويت على مشروع القرار الذي كان سيحدد يوم الاثنين المقبل موعد انذار نهائي للعراق، وطرح بنود جديدة بهدف توسيع دائرة القبول بالقرار وسط اعضاء مجلس الامن.

ازمة السويس التي كرست تشكيل عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية وانقسامه بين قطبين، فتحت الباب امام دول العالم الثالث، التي سعت للاستفادة من ظروف الحرب الباردة سواء عبر اقامة منظومة عدم الانحياز او عبر علاقاتها الثنائية واللعب على تحالفات مناخات الحرب الباردة. لكنها في ذات الوقت اكدت على حقيقة كيف يمكن للتحالفات والترتيبات السياسية ان تنتهي بغير ما كان يؤمل ان تكون عليه.

المهندس الرئيسي لتحالفات ما بعد الحرب العالمية الثانية الرئيس الامريكي فرانكلين روزفلت انطلاقا من دوره في دفع الولايات المتحدة لخوض الحرب في مواجهة التيار الانعزالي القوي، كان يعتقد بداية ان الترتيبات السياسية لمرحلة ما بعد الحرب ينبغي ان تقوم على مثلث بريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. ولم ير روزفلت دورا للجنرال ديجول في البداية حتى في تولي السلطة مباشرة عقب انتهاء الحرب. وربما يفسر هذا بعض اسباب التنافر الامريكي الفرنسي من ناحية والتقارب الامريكي البريطاني من الناحية الاخرى.

لكن روزفلت لم يعط العامل الايديولوجي الذي قام عليه الاتحاد السوفياتي حقه، واعتبر ان هموم الروس الامنية يمكن استيعابها وان موسكو ستتجه في النهاية الى ما يساعد على استقرار اوضاعها واللحاق بالغرب.

لكن وبسرعة اتضح خطل هذا الرأي، وهو ما ادخل الولايات المتحدة في تنافس مع القوة الجديدة البازغة فيما عرف بمرحلة الحرب الباردة، التي استغرقت قرابة نصف قرن من الزمان حتى طويت صفحتها. لكن الانتصار في تلك الحرب الذي اغرى واشنطون ان تطرح رؤيتها الجديدة عبر مبدأ بوش في ايلول (سبتمبر) العام الماضي الداعي لاستخدام الحرب الوقائية وسيلة للقضاء على اي تهديد للقطبية الجديدة، وعدم السماح بنشوء قوة عظمى منافسة للولايات المتحدة. والاشارة بالطبع الى الدول المرشحة الى ان تصبح قوى عظمى وهي روسيا والصين والهند. هذا اذا تم استثناء دول الاتحاد الاوروبي التي لا تزال تتعثر في جهودها لتوحيد القارة، خاصة مع الدور المتفرد والمعوق احيانا الذي تلعبه بريطانيا في اوروبا. ولهذا يمكن القول ان الاعلان الفرنسي والروسي العزم على اللجوء الى استخدام حق النقض استباق من جانبهما للتحرك المنفرد من قبل واشنطون وخلق واقع القطبية الوحيدة التي لا تراعي مصالح وحقوق الآخرين.

التعقيدات التي تميز عالم اليوم توضح بجلاء ان قدرة الدول العظمى على التأثير لم تعد مطلقة كما كانت في السابق. والمعركة الدبلوماسية المحتدمة حاليا في مجلس الامن والسعي لكسب اصوات دول نامية مؤشر رئيسي على وجود عناصر اخرى اصبح لها دور في اتخاذ القرار. ومن هذه العناصر الرأي العام في الغرب عموما، وهو ما يدفع واشنطون الى حالة التناقض والانفصام التي تعاني منها. فهي من ناحية تسعى جهدها للحصول على قرار من مجلس الامن في نفس الوقت الذي تقول فيه انها تعطي نفسها الحرية في التصرف خارجه. فحاجتها الى وجود بريطانيا الى جانبها تدفعها الى هذا الموقف الذي تسعى فيه الى توفير التغطية اللازمة لموقف بلير السياسي.

الورطة التي يجد بوش وبلير نفسيهما فيها، وربما تؤدي الى سقوطهما ليصبحا اول ضحايا الحرب فيما اذا قررا المضي قدما فيها رغم انتصارهما العسكري المتوقع، تعود الى حالة التعقيد التي تحيط بمجمل الموقف وان حالة التبسيط التي يتعامل بها بوش تتجاهل تأثير ثورة الاتصالات التي جعلت من الرأي العام مشاركا في عملية اتخاذ القرار، وبالتالي لم يعد للقوة العسكرية والنفوذ الاقتصادي نفس القدرة على التأثير الذي تمتعت به القوى العظمى في السابق واعطتها القدرة على التحرك والتصرف منفردة.

واذا كان روزفلت وهو اول وآخر رئيس امريكي يتمتع بالفوز في ثلاث انتخابات رئاسية، كما كانت له رؤيته الاخلاقية والاستراتيجية التي اكسبته مكانة في التاريخ، قد اخطأ في تقدير وضع الاتحاد السوفياتي في ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية، فمن باب اولى ان يمضي بوش الابن قدما ليقع في الحفرة التي حفرتها نظرته التبسيطية للعالم الذي يتحرك بين اللونين الابيض والاسود.

الثمن المتوقع لبوش دفعه يتمثل في خسارته المتوقعة في تحقيق هدفه تجنب اخطاء والده والتركيز على اعادة انتخابه دورة رئاسية ثانية. فمجرد انتهاء الحرب ضد العراق وحتى النجاح في تغيير النظام سيعيد تركيز الانتباه الداخلي على الوضع الاقتصادي الذي يمر بحالة مزرية ويفتح الباب امام مقارنات لا حصر لها مع عهد والده، وهي مقارنة لا يريدها ومع عهد سلفه بيل كلينتون خاصة فيما يتعلق بالوضع الاقتصادي، وهي مقارنة لا يتمناها ايضا.

لكن بعيدا عن مصير بوش الشخصي او مبدأه الاستراتيجي، فان السؤال والهم الاساسي سيكون حول ما سيكون عليه وضع العالم، وهل تنجح الولايات المتحدة حتى تحت قيادة مختلفة في تأكيد وضعيتها قوة عظمى وحيدة في العالم تحت رايات أخلاقية اعلى رغم الجراح الناجمة عن هجمات الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) عليها، ام ان الفوضى التي ستعقب الحرب المحتملة على العراق ستفتح الباب امام ترتيبات لتوازن قوى جديد لا يقوم بالضرورة على التأثير المطلق للقوة العسكرية والنفوذ الاقتصادي.