التخلص من صيغة «جمهورية الفاكهاني»!!

TT

ربما من سوء الطالع ان ولادة استحداث منصب رئيس وزراء السلطة الوطنية الفلسطينية جاءت في وقت بينما العالم كله ينشغل بالازمة العراقية المتفاقمة وبالمعركة المحتدمة في مجلس الامن الدولي بين الدول المصرة على شن الحرب ضد العراق والدول التي لا ترى مبررا لهذه الحرب طالما ان نظام الرئيس صدام حسين يبدي المزيد من التعاون مع فرق التفتيش المكلفة بالتأكد من تدمير اسلحة الدمار الشامل.

فلو ان هذه الخطوة التي اتخذها ابو عمار بعد طول تردد، والتي كان يخشى من مغبة الاقدام عليها وهو لم يلتقط انفاسه بعد، جاءت بينما الازمة العراقية في غير هذه الوضعية الملتهبة لأثارت الكثير من الاهتمام ولاستقبلت بالمزيد من الترحيب من الدول الاوروبية ومن قبل الولايات المتحدة على حد سواء.

المعروف ان استحداث منصب رئيس الوزراء في السلطة الوطنية الفلسطينية لم يكن واردا قبل ان يصبح احد بنود الاصلاح الذي طالبت به الولايات المتحدة و بالتالي اسرائيل وطالبت به الدول الاوروبية وبعض الدول العربية، فالرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، الذي قال ذات يوم في بدايات عقد ثمانينات القرن الماضي للرئيس الجزائري السابق الشاذلي بن جديد انه لا يحب ان يرى شريكا له في السلطة وانه لذلك يكره ان يقف امام المرآة في الصباح حتى لا يرى صورة اخرى، بقي يخشى قبل وبعد قيام السلطة الوطنية وحتى الآن افلات احد الخيوط من بين اصابعه واستمر بعد العودة الى فلسطين كما كان قبل ذلك لا يسمح لغيره بأي مسؤوليات فعلية وحقيقية.

في السابق، قبل العودة الى فلسطين، حسب اتفاقيات اوسلو وبالصورة المعروفة، كان ابو عمار الذي كان يحاصره تدخل الانظمة العربية من كل اتجاه وصوب يتقاسم الادوار مع عدد محدود من زملائه في اللجنة المركزية لحركة «فتح» من بينهم محمود عباس (أبو مازن) المكلف في ذلك الحين والآن بالعلاقات مع الاتحاد السوفياتي اولا، ثم مع روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وبملف العملية السلمية والاتصال مع «معسكر السلام» في اسرائيل وبالعلاقات مع الدول الخليجية.

غير تقاسم وتوزيع الادوار فإن ابو عمار بقي يمسك وبقوة بكل الخيوط الفلسطينية، المال والسياسة والادارة وكل شيء، وذلك رغم مشاغبات صلاح خلف (أبو اياد)، رحمه الله، الذي كان يواجه «انفراد» عرفات بتكتل قيادي يضم دائما فاروق القدومي (أبو اللطف) وابو مازن. وكان هذا التكتل يتقارب في احيان كثيرة مع خليل الوزير (أبو جهاد) الذي كان يعتبره الرئيس الفلسطيني ساعده الايمن واقرب المقربين اليه.

كان ابو عمار يردد دائما ان الديمقراطية الفلسطينية هي ديمقراطية غابة البنادق وانه زعيم لشعب لا يرضيه اي شيء وليس راعيا لقطيع من الاغنام، لكن الحقيقة ان الرئيس الفلسطيني بينما كان يردد هذا الكلام كان لا يسمح لأي من زملائه بالاقتراب من دائرة نفوذه الذي كان ولا يزال نفوذا مطلقا، ولذلك فإن هؤلاء الزملاء ومن بينهم أبو اياد وأبو جهاد، رحمهما الله، وأبو مازن وأبو اللطف كانوا دائما يلجأون الى ما يسمى سياسة «الحرد» أي انهم كانوا يبتعدون ويرابطون في بيوتهم او مكاتبهم تعبيرا عن رفضهم لموقف اتخذه ياسر عرفات من وراء ظهورهم ورغم ارادتهم.

وعلى سبيل المثال، فإن الغزو الاسرائيلي للبنان في عام 1982 وقع بينما كان ابو اياد يلجأ الى سياسة «الحرد» هذه وكذلك الأمر بالنسبة لاجتياح اسرائيل للجنوب في عام 1978، كما ان ابو عمار كان قد عاد الى الضفة الغربية وغزة في عام 1994، على اساس اتفاقية اوسلو بينما كان مهندس هذه الاتفاقيات، أبو مازن، يمارس هذه السياسة ويبتعد بنفسه عن الكثير من اجراءات ما بعد اوسلو.

المهم ان ابو عمار، الذي كان «ركَّب» السلطة الوطنية وهيكلها واداراتها المتعددة بما يعزز سيطرته على كل شيء، استبعد متعمدا ان يكون هناك منصب رئيس وزراء ومنصب وزير داخلية بينما اختار وزيرا للمالية شخصية غير مناكفة وغير صدامية ومن خارج أطر «فتح» وبعيدا عن مراكز القوى المعروفة في الساحة الفلسطينية.

لم يتخل ابو عمار عن اساليبه السابقة في القيادة وتسيير دفة الوضع الفلسطيني بعد العودة الى «الوطن» وبعد انتهاء مرحلة «ثورة المنافي» لاعتقاده بأن الوضعية الجديدة والانتقال من حالة الثورة الى حالة الدولة يقتضيان المزيد من المركزية ان بالنسبة للمفاوضات مع اسرائيل والولايات المتحدة وان بالنسبة للأمور اليومية الاجرائية والعادية.

في السابق عندما كان ابو عمار يتربع على عرش ما يسمى «جمهورية الفاكهاني» في بيروت الغربية كان يخشى من الاختراقات العربية الرسمية وكان لا يثق الا بعدد محدود من زملائه من رموز الرواد الاوائل الذين شاركوا في اطلاق الرصاصة الاولى في عام 1965، لكنه وفي كل الاحوال لم يكن يتخلى عن اي من صلاحياته لأي منهم إلا على اساس توزيع وتقاسم الادوار وإلا على اساس ان المرجعية له وحده سياسيا وعسكريا واداريا واعلاميا وماليا وبالنسبة لكل شيء.

ولذلك ولكل هذه الاسباب فقد بقيت السلطة الوطنية، التي كان من المفترض ان تنتقل اليها عدوى طبيعة الحكم في اسرائيل، صورة طبق الاصل عن «جمهورية الفاكهاني» وبقيت الصيغة العامة لهذه السلطة التي كان من المفترض ان تكون نواة الدولة الفلسطينية المنشودة هي صيغة الميليشيات في تجربة «ثورة المنافي» مع اضافة ميليشيا جديدة غير منضبطة هي حركة «حماس» التي اظهرت منذ اليوم الاول لعودة ابو عمار الى غزة انها ترفع راية التحرير من البحر الى النهر من اجل ان تتسلم زمام الامور في السلطة الوطنية ومن اجل ان يكون الشيخ احمد ياسين بديلا لعرفات وان تكون هي، اي «حماس» بديلا لحركة «فتح».

كثيرون من الساحة الفلسطينية ومن خارجها ومن داخل أطر «فتح» وأطر الفصائل الفلسطينية الاخرى بادروا مرارا ولأسباب متعددة ومختلفة الى مفاتحة ابو عمار بضرورة ان يتخلى عن الاساليب السابقة وبضرورة ان تتخلص السلطة الوطنية من صيغة «جمهورية الفاكهاني» وتتحول الى دولة فعلية تأخذ من دولة اسرائيل كل ايجابياتها وتتخلى عن كل السلبيات التي حملها «الثوار» معهم من الخارج، لكنه لم يستجب وبقي مترددا ولم يدرك انه لا بد مما ليس منه بد الا بعد تطورات العامين الماضيين وبعد ان اخذت القوى الخارجية تطرح الاصلاح ككلام حق يراد به باطل.

لقد تأخرت هذه الخطوة كثيرا ولذلك فإنها فهمت، رغم كل تأكيدات ابو عمار بأنها جاءت لتعبر عن ارادة وطنية فلسطينية، على انها رضوخ للضغط الاميركي واستجابة لكل المطالبين من الخارج بضرورة ان تستكمل السلطة الوطنية الاصلاحات المطلوبة باستحداث منصب رئيس الوزراء بعد خطوة اختيار سلام فياض وزيرا للمالية.

وهنا فإن المهم ليس مجرد استحداث هذا المنصب، بل ان تكون هذه الخطوة حقيقية وفعلية وعلى طريق التخلص نهائيا من صيغة «جمهورية الفاكهاني» والمباشرة ببناء كيان فلسطيني يلبي طموحات الشعب الفلسطيني ويتماشى مع متطلبات العصر ويؤسس للدولة الفلسطينية المنشودة التي يستحقها شعب ضحى كما لم يضح غيره.

يجب أن لا ينظر الفلسطينيون وعلى رأسهم وفي مقدمتهم ابو عمار الى هذه الخطوة على اساس انها جزء من صفقة بين الولايات المتحدة واسرائيل من جهة والقيادة الفلسطينية من جهة اخرى، فالولايات المتحدة غارقة الآن حتى «شوشة رأسها» في الازمة العراقية والاعضاء الثلاثة في اللجنة الرباعية، الذين يمثلون روسيا والامم المتحدة والاتحاد الاوروبي، الذين رافقوا استحداث منصب رئيس وزراء في السلطة الوطنية، غير قادرين على اعطاء الفلسطينيين اي شيء لا في مجال «خارطة الطريق» ولا في اي مجالات اخرى.

يجب ان ينظر الفلسطينيون وعلى رأسهم وفي مقدمتهم ابو عمار الى هذه الخطوة على انها مدخل لاجراء اصلاحات كاملة في السلطة الوطنية الفلسطينية وتخليصها من السلبيات والشوائب التي حملها «الثوار» معهم من الخارج ومن بينها، بل واخطرها صيغة «جمهورية الفاكهاني» وليست جزءا من صفقة سياسية لا مع اسرائيل ولا مع الولايات المتحدة.

لقد انهمك المجلس التشريعي الفلسطيني في الايام الثلاثة الماضية في تحديد صلاحيات منصب رئيس الوزراء المستحدث ويقينا ان القرارات والنصوص لن تكون ذات قيمة على الاطلاق اذا لم تكن هناك قناعة فعلية لدى ابو عمار تحديدا بأهمية ان يعطي رئيس وزرائه سواء كان رئيس الوزراء هذا هو ابو مازن او غيره من رموز القيادة الفلسطينية، صلاحيات فعلية لممارسة مهامه وان يتخلى هو، اي الرئيس الفلسطيني، عن اصراره دائما على الامساك بكل خيوط السلطة.

ان المسألة ليست مسألة انحناء للعاصفة الاميركية ـ الاسرائيلية كما انها ليست مسألة ان يكون للسلطة الوطنية رئيس وزراء على غرار ما هو معمول به في العالم كله، اللهم باستثناء الجماهيرية الليبية، ان المسألة هي ان يكون هذا الموقع حقيقيا وان تكون الصلاحيات فعلية وان يضع قائد آخر كتفه الى جانب كتف الرئيس عرفات للنهوض بهذا العبء الفلسطيني في هذه الظروف الاستثنائية المصيرية.

لقد تراجعت الخيارات كثيرا ولم يعد امام ابو عمار، الذي يعترف له شعبه والعالم المنصف بالشجاعة والاقتدار والقدرة على التعاطي بكفاءة عالية مع اصعب التطورات والظروف، الا ان يتخلص من الصيغ السابقة ويؤسس لشعبه الذي يستحق كل خير دولة من غير نمط دول العالم الثالث ومن غير الانماط الشمولية التي اوجدها جنرالات الانقلابات العسكرية في الوطن العربي.