تكريس الاحتقان في الجزائر.. والفرانكوفونية في صعود مؤرق

TT

خلال السنوات الأخيرة، وكلما حل شهر رمضان، أصبحنا نضع أيدينا على قلوبنا ونتجه بعيوننا صوب الجزائر، مترقبين ما سيحدث هناك، بعدما استقر في الأذهان أن شهر العبادة والسكينة والطاعة عند المسلمين كافة، صار هناك شهر الانتقام والقتل وتصفية الحسابات. ورغم أن المرء لايستطيع أن يفهم سر ذلك الحرص على ترويع المسلمين في شهر رمضان بالذات، ويستعصي الفهم أكثر وأكثر حين يصدر ذلك الترويع عن جماعات منسوبة إلى الاسلام، ويفترض أنها موصولة بالله بشكل أو آخر، أقول رغم شذوذ السلوك وغرابته، إلا أنه للأسف صار من الأعراف التي شاعت في الجزائر، وبمقتضاه صار الصوم هناك معمداً بالدم.

لم يختلف الأمر هذا العام، إذ ما أن لاحت بوادر الشهر حتى قُتِلَ 18 شخصاً في مجزرتين وقعتا بولايتي تيبازه والشلف في الغرب الجزائري. لم يصدر بذلك اعلان رسمي، وانما نشرت قصة ما جرى في صحيفة «الخبر» الجزائرية القريبة من دوائر الحكم. ذلك أن الرقم كان كبيراً نسبياً الأمر الذي أثار موجة من الشائعات في العاصمة أوصلته إلى عشرات القتلى، الأمر الذي رفع من وتيرة القلق والتوتر، ولم يكن هناك من سبيل لتهدئة المشاعر إلا بتسريب قصة ما جرى في حجمها الحقيقي. وفي التفاصيل ذكرت أسماء بعض الفصائل التي حملت مسؤولية الجريمتين من قبيل «الجماعة المسلحة» (مجموعة عنتر الزوابري) و«حماة الدعوة السلفية» التي يقودها سليم الأفغاني، وأمير الجماعة المسلحة في منطقة بوسماعيل الساحلية، سليم بوشرور. ما جرى فظيع لا ريب، لكن دلالته مهمة للغاية. ذلك أن وجود أمثال تلك الجيوب المسلحة، واستمرار عمليات القتل التي لم يعد يعلن عن أكثرها، يعني أن الوئام المفترض لم يتحقق بعد، رغم مضي أكثر من عام على اصدار القانون الخاص به. وليس من شك في أن حجب المعلومات المتعلقة بجرائم القتل وعمليات العنف التي تحدث بين الحين والآخر، مقصود به تهدئة الخواطر والايحاء باستقرار الأوضاع، وبحلول الوئام الذي وصل الرئيس بوتفليقة إلى سدَّة الرئاسة رافعاً رايته.

ورغم ان الرئيس بوتفليقة توعد جماعات العنف «بسيف الحجاج» إذا لم تلق السلاح وتنخرط ضمن من شملهم قانون الوئام، إلا أن واقع الحال يدل على أن التهديد لم يؤخذ على محمل الجد. فلا «الجماعات» استجابت له، ولا السلطة كانت قادرة على استخدام «سيف الحجاج» والقضاء على تلك الجماعات. وهو ما أقنع كثيرين بأن قانون الوئام لم يكن سوى ثمرة لصفقة عقدت بين الأجهزة الأمنية وبين عناصر ما يسمى بجيش الانقاذ، لتحييده، بمظنة أن ذلك كفيل بوقف دورة العنف. وكان الخطأ الكبير الذي وقعت فيه تلك الأجهزة انها تعامت عن حقيقة ان العنف نتيجة للاحتقان السياسي، الأمر الذي ورطها في مسعى الاتفاق مع الذين رفعوا السلاح، والقطيعة مع قادة العمل السياسي، من شيوخ جبهة الانقاذ. وترتب على ذلك أن العنف لم يتوقف بينما ظل الاحتقان السياسي مستمراً.

لقد شاءت المقادير ان تتجمع سحب عدة في سماء الساحة الجزائرية مع اقتراب شهر رمضان دلت على أن عقدة الاحتقان لم تحل بعد، وان الأزمة مازالت مستمرة. صحيح ان هناك عناصر للأزمة سابقة على شهر رمضان ولاحقة عليه تتمثل في الفساد الاداري والشلل الاقتصادي والغلاء الشديد وارتفاع معدلات البطالة، إلا أن تلك مشكلات مما يطول علاجها، خصوصاًَ انها نتاج تراكمات سنين طويلة مضت.

وعلى أهمية هذا الشق في الأزمة فان الذي أعنيه شيء آخر يخص الجانب السياسي بالدرجة الأولى.

فقد حلت قبل شهر رمضان مباشرة الذكرى الأولى لاغتيال الشيخ عبد القادر حشاني، أحد أبرز قادة الصف الثاني في الجزائر. وتذكر المعنيون بالأمر أن الرئىس بوتفليقة وعد بالكشف عن ملابسات تلك الجريمة، التي سرت شائعات عن دور لعناصر أمنية في اتمامها، رغم ما أعلن آنذاك أن «متشدداً» اسلامياً هو الذي أقدم على قتل الرجل، الذي كان شخصية محورية وواعدة بين قادة الانقاذ الذين أطلق سراحهم، لعدم ثبوت أية تهمة بحقه.

التعتيم على حادث قتل حشاني، والسكوت على الملف وعدم تحريك أي ورقة فيه بعد مضي سنة كاملة، عزز من الشكوك في صلة الأجهزة الأمنية بعملية قتله، لاستبعاده من الساحة، وهو الذي كان ناشطاً في تفعيل الدور السياسي لجبهة الانقاذ، التي تصر الأجهزة الأمنية على استئصال أي وجود لها.

تزامنت ذكرى حشاني مع قرار وزارة الداخلية الجزائرية منع التصريح للحزب الجديد الذي يتزعمه الدكتور أحمد طالب الابراهيمي (حركة الوفاء العدل). وقد أثار ذلك الحظر استغراب كثيرين في الداخل والخارج، خصوصاً أن الدكتور الابراهيمي يعد من قيادات حزب جبهة التحرير ذات التوجه العربي والاسلامي، وله وزنه في داخل الجزائر وخارجها، وكان أحد المرشحين في انتخابات رئاسة الجمهورية، لكنه انسحب مع المرشحين الآخرين عشية الانتخابات.

وقال وزير الداخلية في تبرير منع (حركة الوفاء والعدل) ان أغلب مؤسسيها من أعضاء جبهة الانقاذ، وهو ما نفاه الدكتور الابراهيمي، إلا أن الدوائر السياسية في العاصمة الجزائرية تتحدث عن شيء آخر، يتمثل في التخوف من شعبية الرجل وحزبه الجديد، وعن أن استبعاده ـ وهذا هو الأهم ـ جزء من الصراع بين الفرانكوفونيين والعروبيين في الجزائر، ذلك أن هناك شواهد بغير حصر، توحي بأن الاتجاه الفرانكوفوني تعززت مواقعه واشتد ساعده في عهد الرئىس بوتفليقة، ورغم انه حرص في التعديل الوزاري الأخير على أن يحسن من تلك الصورة بتعيين وزيرين من أصحاب التوجه العربي والاسلامي، هما وزير الخارجية عبد العزيز بلخادم ووزير الاعلام الدكتور محيي الدين عميمور، غير أن وجود الرجلين بدا وضعاً استثنائياً، لم يغير كثيراً من حقيقة الصعود المثير للفرانكوفونية في عهد بوتفليقة.

أحدث تلك الشواهد أن الرئىس الجزائري أصدر في الأسبوع الماضي قراراً بتشكيل لجنة لاصلاح هياكل الدولة (يقال انها ستصدر دستوراً جديداً يوسع من صلاحيات الرئيس)، ووضع على رأسها فرانكوفوني معتق هو ميسوم صبيح الذي بدأ موظفاً بالادارة الاستعمارية وانتهى سفيراً لبلاده في كندا ثم في دول «البنيلوكس». وسبق ان وصفه الرئىس السابق علي كافي بأنه زعيم «حزب فرنسا» في الجزائر.

هذا الصعود لرموز الفرانكوفونية والحصار المتزايد لرموز التوجه العربي والاسلامي يعيد إلى نقطة الصفر السؤال الكبير حول هوية الجزائر ومستقبلها، والصراع الذي شهدته البلاد طيلة العقد المنصرم هو في شق منه، بل في جوهره وعمقه، محوره هو هذه النقطة بالذات، الذي اختزله بعض المثقفين الجزائريين في الاختيار بين «بن باديس وباريس». والأول، كما هو معلوم، هو الشيخ عبد الحميد بن باديس، المتوفى سنة 1940م، الأمازيغي الأصل وأبرز دعاه الانتماء الاسلامي والعربي للجزائر.

يتوازى هذا الصعود للفرانكوفونية مع الاتساع التدريجي لنفوذ المؤسسة الأمنية والعسكرية واسعة النفوذ أصلاً. فقد استثنيت المؤسسة العسكرية من مراجعات لجنة اصلاحات هياكل الدولة، وتم التعامل معها باعتبارها كياناً مستقلاً ومتميزاً، رغم أن الرئيس بوتفليقة قد أشار في وقت لاحق إلى أن تلك المؤسسة تتحمل جانباً من المسؤولية عن تدهور الأوضاع في البلاد، غير أنه عدل عن ذلك الرأي، وتدارك ما قاله حين أعلن أن الاجراءات التي اتخذتها المؤسسة العسكرية في السابق كانت «ضرورية».

يلاحظ في هذا السياق أن وفد منظمة العفو الدولية الذي زار الجزائر في الشهر الماضي فشل في لقاء المسؤولين عن المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية. رغم أنه أمضى خمسة عشر يوماً في الجزائر، يحاول اجراء تحقيقات مستقلة حول جرائم القتل وانتهاكات حقوق الانسان التي شهدتها البلاد.

ويتردد في العاصمة الجزائرية أن المؤسسة العسكرية فرضت على الرئيس بوتفليقة وزير الداخلية السابق الجنرال العربي بلخير، الذي كان أحد أركان حكم الرئىس الشاذلي بن جديد وأحد مهندسي عملية مواجهة وحل جبهة الانقاذ، حيث تم تعيين الرجل رئيساً لديوان رئىس الجمهورية، في المكان الذي خلا بتعيين علي بن فليس رئيساً للوزراء. يقال أيضاً ان الرئىس قبل بالتعيين على مضض، لكنه لم يحدد لرئيس الديوان الجديد صلاحياته بعد.

في الوقت ذاته تروج في العاصمة الجزائرية شائعات قوية عن اجتماعات تنسيقية بين ضباط المؤسسة العسكرية وضباط ورجال المخابرات الأميركية، وشائعات أخرى عن اتصالات جزائرية ـ اسرائيلية لشراء السلاح وللتعاون الأمني. وقد أحيطت تلك الاتصالات بسرية شديدة بعد رد الفعل السلبي والغاضب الذي حدث في الجزائر في أعقاب الزيارة التي قام بها عدد من الصحافيين إلى اسرائيل. أمثال هذه المعلومات ـ إذا صحت ـ فانها إذ تضاف إلى سابقاتها، فانها ترسم صورة لا تدعو كثيراً إلى التفاؤل بما يجري هناك، الأمر الذي يعقًّد اجابة السؤال الحائر المطروح منذ سنوات، وهو: إلى أين تتجه الجزائر؟