دراويش دمشق

TT

شهر الصيام أتى بالخير يزدهر ما خط بهجته او حسنه قلم هجم دراويش دمشق على لندن في أول يوم من أيام رمضان فملأوها جلالاً ووقاراً ورقصاً، ولا تقل لا يجتمع الوقار والرقص فقد ـ والله ـ اجتمعا وكانت أمسية لا تنسى حلق فيها الدراويش بمستمعيهم ومشاهديهم فوق السحاب بوساطة موسيقاهم وثيابهم البيضاء الفضفاضة التي كانت تلف بهم، وبمشاهديهم في الفضاء وكأنها أشرعة قوارب هجرت بحرها دون ان تغير دورها، فصار الشراع منطاداً يحلق لا بالديزل انما بحرارة الروح.

وكيف لا يحلق وبحة الناي تختبر قبله الفضاء ودفوف الدراويش تدفئ نفسها قبل أصابعهم على نار خفيفة لينسجم الخشب مع الرق مع الأوتار في تلك السيموفونية الدمشقية التي تتكرر في الجامع الأموي منذ دهور، وها هي تخرج من شرنقتها وتبدأ بتقديم فنها للغرباء وليس ـ وعذراً لزلة القلم ـ بين من يجمعهم حب الفنون الراقية أية غربة.

لقد كان الحضور العربي في صالة اليزابيث في «ساوث بانك» مساء الاثنين الماضي أقل من 2% اما البقية فانجليز، وألمان ولاتينيون وفرنسيون وهنود ومن كل فج عميق ومع ان معظمهم لا يعرف العربية فقد كانت ارواحهم ترقص منذ ان أطلق شيخ الدراويش صوته الشجي بالآية الكريمة و«توكل على الحي الذي لا يموت» ثم اتبعها بابتهال:

«مولاي ضاقت بي الأرجاء خذ بيدي» وقبل ان تستقر صرخة «مالي سواك» في الفضاء كان الشيخ الجليل يجأر بشعر المتصوفة الأوائل.

يا عالماً بالسر ضاق بي المدى والليل طال ولم أجد فيه الصدى لقد كانت ليلة لغناء الحب الآلهي الخالص، وكأن شيخ الدراويش الذي ذهب الى الكواليس وعاد بعمامة خضراء وطيلسان أسود كان يعرف المدى والحالة التي وصلت اليها الصالة التي كانت تتحرك يميناً وشمالاً على ايقاع رقصات دراويشه لذا غير ايقاع المشهد وأعطى اجازة للعين، فجلس الدراويش وبدأ العود والقانون يتجاذبان أطراف الحديث وسط مقاطعات محسوبة من الناي.

وفيما القوم في متعتهم الروحية سادرون انطلق ابتهال:

«واخضر في صدري ربيع محبتك».

فشرق البعض بالنشوة المقطرة وتماسك آخرون ليتابعوا الشيخ ودراويشه وهم ينتقلون من دور «من يلمني في هواه» الى أنشودة المدينة المنورة الأولى التي يعشقها القلب قبل الأذن: «طلع البدر علينا» ثم يثلث بـ: «يا محمد يا ممجد يا مؤيد بالشفاعة».

وقبل ان يفيق القوم من تلك الثلاثية النورانية انطلق صوت شيخ الدراويش العجيب بذلك البيت الصادر من أعماق لا تعرف الشك:

انت الغياث لمن ضاقت مذاهبه انت الدليل لمن حارت به الحيل أما اليقين فجاء مع انشودة «مدد مدد» التي جمعت الدراويش وشيخهم في رقصة من أمتع ما يمكن ان تقع عليه العين.

وبالله عليك يا دمشق أعندك كل هذا الفن، وتخفينه عن العالم لترسلي مكانه الخطباء الذين لن يستطيعوا وان بحت اصواتهم وأخلصوا ان يجلبوا لبلدهم ربع المحبة التي جلبتها فرقة دراويش دمشق في ليلة واحدة.

هؤلاء هم الرسل الحقيقيون لبلادهم ومن شاء ان يخاطب العالم الغربي، فليخاطبه بأمثال هذه الفرق الأصيلة التي تمتع القلب والعقل والأذن والعين وتسري بالروح الى عوالم سامقة من التسامي والمحبة.