ما يعانيه الإعلام العربي

TT

أشرت في مقالتي السابقة (27 نوفمبر) الى حربنا الاعلامية الجارية مع اسرائيل، التي أصبحت تشغل الخط الأمامي من المعركة وتنال الاسبقية في جل الاعتبارات بحيث اصبح حتى السلاح خادما لها. الهدف الاستراتيجي لهذه الحرب هو كسب الرأي العام العالمي، وبصورة خاصة داخل الولايات المتحدة، الملاحظ في هذا الصدد ان كل الهزائم العسكرية التي منينا بها أمام اسرائيل مشت بموازاتها هزائم اعلامية، ربما فاقتها في خطرها ومردودها السلبي، المثال الواضح هنا هو حرب 1967.

ما الذي أعطى الاسرائيليين هذا التفوق علينا في ميدان الاعلام؟ هذا موضوع عشته لأعوام طويلة كمغترب عربي تولى مهمات اعلامية في لندن عبر السنين. أول شيء يلفت النظر في هذا الخصوص هو اننا غرباء في هذا العالم الغربي وكنا حتى السنوات الأخيرة لا نكون غير أقلية صغيرة فيه، في حين ان الصهاينة هم أبناء البلد وتسندهم طائفة كبيرة العدد. وباعتبارهم ابناء البلد، تميزوا علينا لغويا وحضاريا. ليس بيننا من يستطيع الرد على الصحف والاذاعات والحكومة غير عدد قليل جدا، في حين ان كل يهودي يستطيع ذلك. والكثير منهم يقومون به بالفعل، وبالتالي تفوقوا علينا في الضغط على وسائل الاعلام والبرلمان ومؤسسات الدولة. لا يقال شيء مناف لاسرائيل إلا وأقاموا الدنيا واقعدوها. هكذا راح الكتاب والصحافيون، وعلى رأسهم الكاتب اللاذع رشارد انغرامز والمؤرخ الكبير جي بي تيلر، ينصحون بعضهم بعضا بفعل أي شيء إلا التطرق لمشكلة الشرق الأوسط.

لليهود أيضاً تراث كبير في الدرس والتعليم والثقافة والفكر، لا يوجد يهودي أمي في العالم، وأكثرهم يتقنون أكثر من لغة واحدة، حتى قيل ان نسبة القراءة والكتابة في اسرائيل مائتان بالمائة، على اعتبار ان كل اسرائيلي يستطيع ان يقرأ ويكتب بما لا يقل عن لغتين، وكشريحة مثقفة من المجتمع الغربي احتلوا أماكن بارزة في ميادين الفكر والأدب والفن. يلتفت المواطن الغربي فيجد نفسه متعلقاً بموسيقى مندلسن وروبنشتاين وماهلر ولوحات شاغال وكندنسكي وأغاني بوب دلن وبربارة ستراسند والقائمة الطويلة من نجوم هوليوود والمسرح البريطاني، ناهيك بالكتاب والعلماء والفلاسفة. لا شيء هناك يقابلهم من الجانب العربي. موسيقانا لا تثير فيهم غير الصداع والقرف. تعطي هذه الخلفية استعداداً نفسيا طبيعيا في المواطن الغربي للتعاطف معهم. يزداد هذا البعد النفسي عمقا بشعور الاثم الذي يحس به الغربيون تجاه ما قاموا به ضد اليهود، لا سيما الهلكوست الذي شنه النازيون عليهم، وقد برع الصهاينة في استغلال هذا الشعور بالاثم والحاجة للتعويض عنه.

كجزء من المجتمع الغربي وعى الصهاينة آلية العملية السياسية للديمقراطيات الغربية، دور الرأي العام فيها، دور الجامعات والمعاهد العلمية، حرية الصحافة، كيف تجري الانتخابات وتعمل الاحزاب والنقابات ونحو ذلك. هذا شيء قلما أدركه المسؤولون عندنا. كم وكم من البرقيات والتعليمات تسلمها السفراء والملحقون الصحافيون العرب من حكوماتهم للضغط على وزارات الخارجية الاجنبية لمنع صحفهم واذاعاتهم من نشر مواد منافية، وكم وكم اضطر المسؤولون الغربيون الى الاعتذار عن عدم قدرتهم على القيام بقمع صحافيي بلادهم. هناك قطاع كامل ومتنفذ في حزب العمال البريطاني ومعظم الاحزاب الاشتراكية يمثل بولي صهيون، أو الصهيونيين الاشتراكيين. لم يبذل العرب أي محاولات جديرة للتغلغل في الاحزاب الغربية، وأنى لهم ذلك؟ انهم ليسوا مواطنين في بلدانها.

المشكلة الاساسية في رأيي بالنسبة الى سائر قضايانا الوطنية، هي ان الوطنية ما زالت في الواقع تقع في أسفل اسبقياتنا، الأسبقية الأولى يعطيها المواطن العربي لنفسه، انطلاقا من روح الفردية العربية التي هي بدورها من ثمار حياة البداوة يليها الولاء للعائلة ثم القبيلة أو الطائفة أو البلدة. الوطن ككل ما زال هشا في دماغ حتى المثقفين منا. ينتج من ذلك ان المغترب العربي مواطن ضائع. فهو لا يشعر بالانتماء الى الوطن الجديد الغريب عنه كلياً، وبالوقت عينه لا يشعر بالانشداد الى وطنه الأصلي، بل وفي كثير من الأحيان يشعر بالنقمة والكره ضده بسبب ما عاناه منه. النتيجة هي انه لا يلعب أي دور سياسي في غربته، ولا ينتمي الى الأحزاب أو المنظمات السياسية أو النقابية، وقلما يعبأ بالتصويت في الانتخابات، أو يقوم بأي تمويل سياسي اذا اغتنى، وكل ذلك على عكس الشعور والسلوك اليهودي التضامني. الواقع ان الكثير من منظمات المعارضة العربية تقوم بدور سلبي هنا بنشاطها في فضح التجاوزات والانتهاكات واللا انسانيات التي تجري في بلدانها الاصلية. الصهاينة يتغنون بديمقراطيات ومنجزات اسرائيل ونحن ننشر غسيلنا القذر أمام الغرباء.

أكثر من ذلك يجد العربي نفسه فكريا ودينيا وحضاريا غريبا عن محيطه الجديد ولا يبذل أي جهد للتشرب به. كواحد من المواظبين على ارتياد مصادر الفن، لم أصادف طيلة حياتي هنا عربيا واحدا في أي حفلة مسرحية أو موسيقية أو أوبراتية أو معرض للفن، في حين كثيرا ما سمعت اللغة العبرية تتردد في زوايا هذه القاعات. حتى الفنانين والأدباء العرب الوافدين الى لندن يقضون وقتهم في التسوق وتذوق أنواع الكباب في المطاعم العربية.

من نتائج ضحالة التزاماتنا الوطنية، ان معظم الدبلوماسيين والموفدين الاعلاميين العرب يقضون وقتهم هنا لا في محاولة التأثير في الأجنبي وإنما التأثير في مديرهم ووزيرهم المسؤولين أمامهما. ما يكتبونه من تقارير ومقالات ورسائل الى الصحف وما يقومون به من نشاط كله مصمم لمصالحهم الخاصة ومستقبلهم وارضاء مديرهم، والكثير منه في الواقع يسيء لبلادهم وامتهم. انني اتحدث هنا من تجارب سنوات طويلة قضيتها في العمل مع هؤلاء السادة.

بيد ان لمشاكلنا الاعلامية جذورها الرئيسية في ايديولوجيتنا واستراجيتنا وفي عجزنا عن فهم الديمقراطية الغربية. ففي عام 1948، ظهرنا بمظهر من يتحدى مقررات الأمم المتحدة (تقسيم فلسطين)، ويسعى الى تقتيل اليهود وفرض السيطرة عليهم. ظهرنا بعد النكبة بمظهر من يريد ويصرح علنا برمي اليهود في البحر، في حين يقف أبا ابان في الأمم المتحدة ويردد كل ما نريده هو تحقيق السلام مع جاراتنا. شتان ما بين الصورتين! وبتشجيع العمل الفدائي وخطف الطائرات والرهائن وقتل الاسرائيليين في الخارج اعطينا الصهاينة فرصة ترويج صورة العرب كارهابيين. ساهم رهاننا على الحصان الخاسر، السوفييت، في ظهورنا أمام الغرب بمظهر الدائرين في مدار الشيوعية والمعادين للغرب. يعود الكثير من هذه السلبيات الى إيماننا بالعنف والقوة وشعار «بالسلاح فقط» وميل الكثيرين الى الاعتقاد بأن الاعلام مضيعة وقت. المأساة في ذلك هي اننا لم نحسن حتى تطبيق هذا الشعار. فقد انهزمنا في كل حروبنا مع اسرائيل، وزدنا بذلك سوء سمعتنا. كل هذه العشرين دولة والمائتي مليون عربي يعجزون أمام هذه الحفنة من اليهود! وبالطبع يجد الغربيون الكثير من مظاهر حياتنا وتقاليدنا كختان الاناث ومعاملتنا للمرأة وعمليات غسل العار واخذ الثأر وتغيير الحكم بالانقلابات والاغتيالات وهيمنة الدكتاتورية العسكرية بأساليبها القمعية والوحشية المنافية لحقوق الانسان شيئاً لا تستطيبه انفسهم ويتباين تبايناً واضحاً مع نمط الحياة الغربية في اسرائيل، ويساهم بدوره في تعكير وتقويض مساعي الاعلام العربي السيئ الطالع.