إسبانيا بعد ربع قرن من الديمقراطية والملكية

TT

عندما أسدل الستار على عهد فرانكو في نوفمبر (تشرين الثاني) 1975 لم تكن فترة الانتقال من الدكتاتورية الى الديمقراطية ومن الجمهورية الى الملكية مرة أخرى فترة هينة. فالأفكار والممارسات القديمة تموت ببطء، واختيار الطريق الصحيح وسط الضباب السياسي الكثيف تحوطه المخاطر والخطوات غير المحسوبة. لكن وعي اسبانيا بأهمية اللحظة التاريخية كان ذخرها الحقيقي، كما ان تجارب حرب أهلية مريرة ونظام دكتاتوري استمر أربعة عقود وإن كانت قد تركت جروحاً غائرة إلا إنها صقلت الشخصية الاسبانية التي أدركت المعنى الحقيقي للمرونة السياسية كأساس للاستقرار واعادة البناء. وفي قفزة هائلة طولها خمسة وعشرون عاما انتقلت اسبانيا من دولة من العالم الثالث الى واحدة في مقدمة العالم الأول، وهو انجاز ضخم ليس له نظير في الأزمنة الحديثة، جسد هذا الحلم القديم الذي طالما حلمت به اسبانيا منذ نهايات القرن الثامن عشر وعجزت عن تحقيقه مرات ومرات.

ان مرور ربع قرن من الزمان كاف لتشخيص حالة المجتمع السياسي، وفي حالة اسبانيا يكفي النظر الى أهم معالم الطريق الذي سارت فيه لاعادة بناء المجتمع والدولة. والحاصل انها عندما بدأت تشيد عمارتها السياسية والاقتصادية الحديثة فقد أقامتها على أربعة عمد رئيسية: ديمقراطية حقيقية غير منقوصة ـ ملكية برلمانية مستنيرة ـ تنمية اقتصادية في ظل مناخ سياسي حر، الحفاظ على الهوية الاسبانية في ظل انظمة داخلية للحكم الذاتي.

الإصلاح السياسي كانت البداية هي صدور قانون للاصلاح السياسي تم الاستفتاء عليه في ديسمبر (كانون الأول) 1976. وكان القانون هو الركيزة الأساسية التي مهدت لأول انتخابات ديمقراطية حرة في يونيو (حزيران) 1977من ناحية، واعداد دستور جديد على أحدث الأنظمة الأوروبية في 1978 من ناحية أخرى. ضمن الدستور احترام حقوق اقامة حكم ذاتي وجنسيات داخلية من الأقاليم التي تتميز باعتبارات ثقافية ولغوية خاصة بها، مع الحرص في الوقت نفسه على وحدة اسبانيا كدولة، فأضفى على المقاطعات نوعاً من الاعتزاز الذاتي والافتخار فأرضى عواطف قطاعات كبيرة من الاسبان مع اعتزازها بهويتها الاسبانية. ومع ذلك يبقى على اسبانيا ان تتمكن من حل مشكلة إقليم الباسك، هذه المشكلة المعقدة التي تمثل أكبر بقعة سوداء في اسبانيا وتمتد بجذورها الى مواقف قديمة منذ عهد فرانكو وبعض سياساته.

وبانتهاء عهد فرانكو بدأت عودة اعداد كبيرة من المثقفين والفنانين الاسبان الى اسبانيا بعد سنوات طويلة من النفي الرسمي والنفي الذاتي لتشارك في الحوار الدائر لاقامة المجتمع الجديد. وبتأثير من هذا المناخ السياسي الجديد بدأت أفكار الماضي تنحسر أمام ثقافة سياسية جديدة لم تعهدها اسبانيا لزمن طويل، ومهدت لها الانضمام الى الوحدة التي كانت أوروبا تشيدها لتكون دعامة السلام والتنمية في أوروبا الجديدة.

ودخلت اسبانيا في مباحثات مع المجموعة الأوروبية انتهت بانضمامها اليها عام 1985، كما انضمت الى المجلس الأوروبي، ووقعت اتفاقية حقوق الانسان والحريات الأساسية، معلنة بذلك عن دخولها حقبة جديدة في سياستها الخارجية أساسها القيم الأوروبية واحترام الكرامة الانسانية، كما انضمت الى التحالف الاطلنطي وأقامت علاقات مع دول أوروبا الشرقية القديمة على نفس مستوى علاقات دول المجموعة الأوروبية مع تلك الدول.

وقد تغيرت تماما العلاقات الاسبانية البرتغالية التي كانت تغذيها الشكوك والحساسيات القديمة وحل محلها التعاون والفهم المشترك خاصة مع دخول البرتغال للتجمع الأوروبي مع اسبانيا في الوقت نفسه كذلك تغيرت نهائيا الحساسيات القديمة التي كانت تشوب علاقات دول اميركا اللاتينية باسبانيا وحل محلها تعاون اقتصادي غير مسبوق، بل لقد ساهمت اسبانيا بدور مهم معروف ـ وإن ظل غير معلن ـ في تخلص كثير من دول القارة من الأنظمة العسكرية وتدعيمها للاتجاهات الديمقراطية فيها.

معدلات عالية للتنمية الاقتصادية وفي الميدان الاقتصادي فمن الأهمية ابراز أمور ثلاثة أساسية التزمت بها اسبانيا في توجهها الاقتصادي: الأول التخلص النهائي من أي نوع من التناقض بين الحرية السياسية والتنمية الاقتصادية، إذ سادت القناعة بضرورة الحرية للتنمية القوية على نحو ما فهمته أوروبا الغربية. والثاني ان لن يكون بمقدور اسبانيا ان تحقق تقدما اقتصاديا مهما بدون الاستفادة من السوق الأوروبية الواسعة. والثالث ادراكها أنه لا يكفي أن تبقى على هامش وحدة جمركية وانما من الضروري المشاركة في المرحلة الثانية لبناء أوروبا التجمع وهي «الوحدة النقدية» وهو ما انضمت اليها اسبانيا عام 1998، وكان البيزو الاسباني قد سبق ان انضم الى «النظام النقدي الأوروبي» عام 1989.

واستطاعت اسبانيا بالفعل تحقيق تنمية اقتصادية كبيرة، ويكفي ان ننظر الى هذه التنمية من خلال «جملة ناتجها القومي» من زاوية الاسباني الفرد بالمقارنة بنظيره في الولايات المتحدة. كانت النسبة للفرد الاسباني عام 1960 هي 34.3% من نظيره في الولايات المتحدة، ارتفعت عام 1975 لتكون 59.3% لترتفع عام 1995 الى 78%، ثم وصلت في 1999 إلى 82% من نظيره في الولايات المتحدة، في حين يقدر لها أن تصل الى نسبة 90% عام 2007. كذلك، ففي دراسة حديثة لمنظمة التعاون الاقتصادي الأوروبي قدرت الزيادة في صادرات اسبانيا في السلع والخدمات عن العام الحالي بنسبة 14.5%، تتفوق بها اسبانيا على بقية دول المجموعة الأوروبية ـ باستثناء ايرلندا ـ وعلى الولايات المتحدة واليابان. كذلك معروف تفوق اسبانيا على الولايات المتحدة في الاستثمارات في القارة اللاتينية متميزة أيضاً على الولايات المتحدة هناك بالاشتراك الثقافي واللغوي والتاريخي بين اسبانيا ودول اميركا اللاتينية.

ومن المهم ملاحظة ان هذا المستوى العالي من الاداء الاقتصادي لم يكن من الممكن تحقيقه لولا التفاهم الواضح بين الحكومات الاسبانية واتحادات النقابات العمالية والاتحادات الصناعية والقطاعات التجارية والمالية الكبرى الذي أدى الى تحسين الاوضاع الاجتماعية وظروف العمل، الأمر الذي حقق درجة عالية من الوفاق الاجتماعي. وقد لفت النظر ان عدد ساعات العمل المفقودة بسبب الاضرابات العمالية كانت قد وصلت عام 1979 الى 171.1 مليون ساعة وانخفضت في 1999 الى مجرد 6.1 مليون ساعة.

انفجار ثقافي أما على المستوى الثقافي والفكري والاعلامي فبتأثير المناخ الديمقراطي الحقيقي الذي بدأ يسود اسبانيا فقد تحققت تنمية ضخمة خاصة من بداية الثمانينات في النواحي التعليمية والثقافية والفنية كافة عكست تغييرا جذريا مكن المبدعين والمفكرين من تنمية المواهب الفردية والوصول الى مستويات من الامتياز تزيد في بعض الأحيان على دول أوروبية أخرى، ان التغيرات التي حدثت في الثمانينات لا تقل عن انفجار ثقافي غير من صورة اسبانيا داخلها وخارجها، وكان دليلاً على ان المجتمع الاسباني ـ خاصة الأجيال الحديثة ـ قد وصل الى مرحلة الثقة بالنفس وتقديره وثقته بأهمية الثقافة والمعرفة، ولا شك ان الحكومة الاسبانية المركزية والحكومات المحلية قد قامت بأدوار مهمة عندما مهدت لكل ذلك بوضع بنية أساسية فكرية وثقافية وفنية سارت جنبا إلى جنب مع تنمية ضخمة في عرض وطلب الفنون والآداب التي بدأت تأخذ بعدا شعبيا جديدا.

أما الاعلام الاسباني فقد تطور بسرعة واضحة وبدرجة مدهشة وقام بدوره لا في مجرد الاستفادة من المناخ الديمقراطي الحر الجديد الذي لا غنى عنه لاعلام جاد، وانما في تدعيم الاعلام للاتجاهات الحرة وتوسيع المناخ الحر وتعميقه. وكان قد أشير أخيراً الى دراسة أشرفت على اعدادها صحيفة «انترناشونال هيرالد تريبيون» عن أهم الصحف في 17 دولة أوروبية، ظهر منها ان صحيفة El Pais الاسبانية تحظى بالمرتبة الخامسة في «تأثيرها» ونفوذها على القارئ الأوروبي.

إسبانيا كقوة عالمية ان التقدم الذي حققته اسبانيا في ربع القرن الأخير ونقلها من دولة منقسمة على نفسها من دول العالم الثالث الى الصفوف الأمامية في أوروبا لا يقل عن نهضة حقيقية كانت لها انعكاساتها في نظرتها الى نفسها ونظرة العالم، لهذا فلم يكن غريبا ان تعلن اسبانيا في يوليو (تموز) الماضي عن انشاء «مجلس السياسة الخارجية» هدفه كما عبر عنه وزير الخارجية الاسباني ـ تنسيق السياسة الخارجية لاسبانيا لتحويلها ـ أي اسبانيا ـ الى قوة عالمية. هذا المجلس الذي يترأسه رئيس الوزراء وبعضوية نائب رئيس الوزراء ووزراء الخارجية والدفاع والتعليم كان قد بدأ مهامه بموضوع اعادة التفاوض مع الولايات المتحدة لمراجعة الاتفاق العسكري المعقود بينهما عام 1989 بهدف أن تكون لاسبانيا صفة «شريك ذي أفضلية» هذه الصفة التي اعترفت بها الولايات المتحدة لفرنسا وألمانيا من قبل. كذلك فمن العوامل المهمة التي تدخلها اسبانيا في تقديرها لتكون لها هذه المكانة العالمية التي تحظى بها وبشكل متزايد اللغة الاسبانية، حيث تعتبر ثاني اللغات العالمية انتشارا بعد الانجليزية.

دور الملك خوان كارلوس ولا شك ان ما حققته اسبانيا يمثل جهود ألوف الاسبان في كل المواقع المهمة في المجتمع الاسباني ومؤسساته المدنية والرسمية. ولا شك أيضاً في أهمية الدور الحيوي الذي قام به «أدولفو سواريز» ـ أول رئيس وزراء فترة الانتقال في تحمله العبء الأكبر في وضع السياسات وأولوياتها وأسلوب تنفيذها، خاصة لخبرته السابقة المباشرة بحكم فرانكو، لكن قصة اسبانيا تنقص ثلاثة أرباعها بدون التعرف على الدور الجوهري الحاسم الذي قام به الملك خوان كارلوس الذي تجمع الآراء داخل اسبانيا وخارجها على قيادته السفينة الى شاطئ الأمان. ان قصة اسبانيا بدون خوان كارلوس أشبه بقصة «هاملت» بدون الأمير. فبسبب ما عرف عنه من التزام كامل بالممارسة الديمقراطية وعاطفته الشديدة للشعب الاسباني كان الرمز الفعلي أمام الرأي العام لاسبانيا الحديثة الديمقراطية، فانفتحت الأبواب التي كانت مغلقة أمام السياسة الخارجية الاسبانية.

ومن انجازاته التي يحتفظ التاريخ بها اقناعه القوات المسلحة بالابتعاد عن التدخل في الحكم ولم يكن ذلك بالأمر السهل بعد طول فترة فرانكو. ان تصرفه الشجاع الحكيم في مواجهة الانقلاب العسكري الذي جرى في 23 فبراير (شباط) 1981 وأدى الى افشال المحاولة يعتبر من أهم الأحداث التي اتخذها الملك في تثبيت دعائم الشرعية، والديمقراطية اميركا والاستقرار لاسبانيا بل كان لموقفه هذا أثره داخل أوروبا عامة وفي البرتغال بالذات، بل أبعد من ذلك في دول أميركا اللاتينية وإدانة الانقلابات العسكرية فيها.

لهذا كله، فلعل «جنشر» وزير الخارجية الألماني السابق قد عبر بدقة وإيجاز عن مكانة الملك عندما قال ان وجوده في اسبانيا لم يكن من حظ اسبانيا وحدها وإنما من حظ أوروبا كلها.