هل جاءت لحظة خلاص العراقيين؟

TT

عندما تظهر هذه المقالة ربما تكون الحرب قد اندلعت أو أوشكت أن تندلع. كل ما ترقبناه وتخوفنا منه أصبح الآن على الأبواب. ويبدو أن المرء يخشى الشيء حتى يدخل فيه، فإذا ما دخل فيه أصبح أمراً عادياً لا يثير كل هذا الذعر. وبالتالي فالخوف من الخوف أخطر من الخوف ذاته، أو من الدخول في المعمعة وجحيم الموت. وبما أن اللحظة قد أزفت فإنه تخطر على البال بعض التأملات والأفكار. نقول ذلك على الرغم من أنه عندما يتكلم صوت المدفع يخرس صوت الفكر، أو كما قال شاعرنا الكبير أبو تمام في قصيدة عصماء: السيف أصدق أنباء من الكتب.. في حدِّه الحدّ بين الجدّ واللعب.

السيف هو الذي يحسم الأمور في نهاية المطاف، والغلبة للأقوى الذي يحسم حركة التاريخ في هذا الاتجاه أو ذاك. فالتاريخ لا يمكن أن يظل متذبذباً، متردداً، تارة يميل في هذه الجهة، وتارة يميل في الجهة الأخرى. وقد تردد التاريخ طويلاً فيما يخص مشكلة صدام حسين، تردد منذ أكثر من عشر سنوات، أي منذ نهاية حرب الخليج الأولى. وكان ينبغي أن يُحسم منذ ذلك الوقت، لا أن ينتظر كل هذه السنوات الثقيلة، هذه السنوات العجاف التي ضغطت على صدر شعب العراق حتى أزهقت روحه، أو كادت..

فهل جاءت لحظة الخلاص من استبداد لم يشهد له التاريخ العربي مثيلاً منذ أيام الحجاج بن يوسف الثقفي؟ «إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قِطافها..». كم من الرؤوس العراقية قطع صدام حسين منذ ذلك اليوم المشؤوم من شهر يوليو عام 1979 وحتى الآن؟.. بل وحتى الحجاج يقال بأن الدعاية العباسية شوّهت صورته اكثر مما ينبغي، بسبب أمويّته. فالواقع انه كان أكثر رحمة وشفقة من جلادي صدام حسين..

مهما يكن من أمر فإني كنت أتمنى أن يجيء التغيير من الداخل العربي، لا من الخارج الأجنبي. ولكن يبدو أن الداخل مات من كثرة الهمّ والغمّ والرعب من الطغيان. لقد استبطن الإنسان العربي آليّات القمع والخوف إلى درجة أن الأنظمة أصبحت خالدة لا تموت. أصبحت أبدية، سرمدية، كالدهر.. بهذا المعنى فإن الاستبداد الأخطر ليس هو ذلك الذي يمارسه الطاغية عليك من الخارج، وإنما ذلك الذي يستولي عليك من الداخل حتى ليكاد يصبح جزءاً لا يتجزأ منك. وبالتالي فلا تستطيع منه فكاكاً إلا إذا قتلت نفسك!.. تصبح وأنت تنكر الحرية، وتطلب دائما المزيد من العبودية..

إلى هذا النحو من التردي وصلت الحالة العربية. وبما أني شخص لا يفهم إلا عن طريق المقارنة، فإني أحب أن أعرف كيف تحررت الشعوب الأوروبية من الطغيان لأول مرة. وتخطر على بالي هنا قصة هيغل ونابليون بونابرت. فعلى الرغم من أن نابليون دخل مدينة «يينا» الألمانية فاتحاً عام (1806)، أي قبل مائتي سنة تقريباً، إلا ان هيغل صفق له بكلتا يديه. وقد يقول قائل: ولكن هذه خيانة! كيف يصفق مثقف ما لفاتح عسكري يغزو بلاده؟ ومع ذلك فهذا ما فعله هيغل! فهل يستطيع أحد أن يتهم هيغل بالخيانة وهو الذي يمثل ذروة الفلسفة الألمانية ومجدها؟!، ولكن هيغل كان يعيش في بلد محكوم من قبل نظام استبدادي مغلق يخنق الأنفاس قبل العقول. ولذلك رحب بنابليون وفرح بانتصاره على بلاده لأنه كان يحمل معه آفاق المستقبل ورياح التغيير. كانت الثورة الفرنسية طرية، طازجة، وكان العالم القديم المهترئ في كل انحاء أوروبا ينتظرها لكي تطلق عليه رصاصة الرحمة فيموت من تلقاء ذاته. كانت الأرض الألمانية عطشى للحرية مثلما هي الارض العربية الآن. كانت تستصرخ وتستغيث. فجاء نابليون بونابرت لكي يقلب الأمور رأساً على عقب، ولكي يغير المعطيات. جاء لكي يهزّ التاريخ من شروشه، من جذوره، لكي يحرك عجلة التاريخ.

يقول هيغل بلغته الفلسفية ـ الشعرية التي لا تضاهى:

«لقد رأيت الامبراطور، روح العالم، على حصان، وهو يخترق شوارع المدينة. إنه لإحساس هائل يستولي عليك وأنت ترى هذا الشخص بأم عينيك، هذا الشخص الذي ينتشر بظلّه فوق العالم، ويهيمن عليه..» هذا الشخص الذي يجسّد في شخصه عصارة التاريخ. بالطبع فإني لا أقارن هنا بين جورج دبليو بوش ونابليون بونابرت! فالرجل لا يمتلك سحر القائد الفرنسي، ولا هالته الاسطورية، ولا جاذبيته الشخصية.. ولكن.. ألا توجد أوجه تشابه بين الظروف؟ وهل يمكن للعالم العربي ـ الإسلامي أن يبقى على هامش حركة التاريخ؟ وإلى متى؟

ولكن مرة أخرى اقول: كنت أتمنى أن يجيء هذا التغيير من الداخل، وبقوى ذاتية عربية، لا أن يفرض من الخارج فرضاً، فهذا شيء مهين بالنسبة لنا ويشعرنا أكثر بمدى عجزنا وعطالتنا الذاتية. ولكن يبدو أنه لم يعد هناك من داخل او خارج في عصر العولمة الكونية، فالعالم ضاق من كثرة ما اتصل ببعضه البعض.

والفيلسوف الألماني هابرماس يعتقد ان العالم سائر باتجاه الحكومة الكونية، بل وحتى تشكيل البرلمان العالمي. وهو بذلك يبقى وفياً للفلسفة المثالية الألمانية ولأسلافه الكبار من أمثال كانط وهيغل. فهؤلاء كانوا يحلمون بأن تنتشر مبادئ الحرية والمساواة والعدل في كل أنحاء أوروبا على يد نابليون أو غير نابليون. وما كانوا يستطيعون أن يحلموا بالعالم ككل آنذاك. كان يكفيهم آنذاك أن تتحرر أوروبا. اما الآن فإن هابرماس يقفز بالفكرة قفزة جديدة الى الأمام ويحلم بأن تدخل البشرية كلها في عصر الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطن.

ولهذا السبب راح بعض الفلاسفة المعاصرين يؤيديون «حق التدخل» في الشؤون الداخلية للبلدان المحكومة من قبل أنظمة طغيانية عفى عليها الزمن.. فإهانة كرامة إنسان واحد في العراق أو غير العراق تعني إهانة البشرية بأسرها من خلال هذا الشخص. وبالتالي فلا يمكن للعالم المتحضر ان يقبل باستمرارية مثل هذه الأنظمة إلى ما لا نهاية. ان مجرد وجودها على سطح الأرض يعني شذوذاً أو تحدياً لقيم الحداثة الكونية والفلسفة الإنسانية التي بلور خطوطها العريضة شخصيات كبرى: من امثال جان جاك روسو، فولتير، كانط، هيغل.. وحتى هابرماس حالياً.

وبالتالي فالعالم كله سائر في هذا الاتجاه الذي يمثل حركة التاريخ الآن. والعالم العربي ـ الإسلامي لا يمكن أن يبقى بمعزل عن هذه المتغيرات الكبرى. ضمن هذا الإطار العام، ينبغي أن نموضع الأمور لكي نفهم ما يجري حالياً، أو ما سيجري بعد قليل. ولذلك فإني لا أفهم لغة بعض المثقفين العرب الذين ينددون بالخارج فقط، وينسون الداخل وإجرامه واستبداده المزمن. انهم يمشون ضد حركة التاريخ ولا يفقهون أبداً معنى الاحداث الراهنة. انهم يستخدمون خطاباً سياسياً بالياً، أو لغة سياسية متكلسة، ميتة، جوفاء: لغة الخمسينات والستينات التي لم تعد تقنع أحداً..

بالطبع كنت اتمنى ان يجيء القرار من حكومة العالم كله: اي من مجلس الأمن الدولي، وليس من قبل القوة العظمى المتغطرسة حالياً. ولكن يبدو أن البشرية لم تنضج بعد لتحقيق حلم هابرماس. فالأشياء تجيء على مراحل، وبالتدريج. فالمجتمع المدني العالمي في طريق التشكل، وسوف يجيء يوم ينتخب فيه جميع مواطنيّ العالم البرلمان العالمي الذي يمثلهم والحكومة التي تمثل الشرعية الدولية بأسرها. وإذا ما ذهبنا في الأحلام والطوباويات الى نهاياتها فيمكن أن نقول بأنه لن يبقى عندئذ من مظلوم، أو مضطهد، أو منفي على وجه الأرض. وسوف تختفي عندئذ السجون والمعتقلات وأساليب التعذيب الوحشية وكل الأنظمة البائدة التي تمارسها، أو لا تزال تمارسها حتى هذه اللحظة..

بقيت نقطة أخيرة أو تخوف أخير، ينبغي على بوش الذي يقود حركة التاريخ الآن ويتحمل مسؤولية رهيبة أن يكون صادقاً فيما يخص وعوده الأخيرة بإقامة دولة فلسطينية حقيقية. فهذا شرط أساسي لا بد منه لنجاح الاستراتيجية الجديدة في المنطقة. لماذا؟ لأن الحرية كلّ لا يتجزأ، ولا يمكن أن نكون معها في العراق، وضدها في فلسطين! هنا تقف مصداقية الغرب كله على المحك..

ثم ينبغي عليه أن يفهم أن ما حققه الغرب على مدار مائتي سنة من النهضة والعمران والنضج الحضاري لا يمكن للعالم العربي أو الإسلامي ان يحققه خلال بضع سنوات أو حتى بضعة عقود من السنين. فالعملية سوف تكون طويلة، وينبغي ان يترك لشعوب المنطقة حرية أخذ زمانها بيدها. وليته استمع إلى نصيحة شيراك وشرودر من أجل ايجاد حل سلمي للعراق، وانتصف للحق والعدل ـ ولو جزئياً ـ في فلسطين. فالشعوب العربية هي التي ستصنع الديمقراطية في نهاية المطاف وليس الجيوش الأميركية. ولا ينبغي أن ينسى ان الشعوب الأوروبية ثارت على نابليون فيما بعد وطردت جيشه وهزمته عندما أحست بأنه يريد أن يتحول إلى مستعمر ومستبد بعد أن كان قد حررها من الاقطاع والطغيان.. وبالتالي فينبغي أن يفكر في مستقبله لكيلا يحصل له ما حصل للامبراطور من نفي وإهانة وموت بطيء في جزيرة سانت هيلانة الشهيرة..