الروح أغلى من أن تصبح درعا بشريا

TT

تذكرني مسألة الدروع البشرية بقصة المرأة بجاية رحمها الله. وبجاية هذه امرأة كانت تقطع المسافات من قلب منطقة الأهوار حاملة على رأسها قفة كانت قد قسمتها إلى طوابق تحمل صحون القيمر ـ القشطة ـ المستخرج من حليب الجاموس الذي تكثر تربيته في تلك المنطقة، وتبيع كل صباح ما حملته بالإضافة إلى حليب الجاموس.

في مناطق الأهوار تجد الرجال يخلدون للراحة في حين تخرج النساء لكسب العيش، ولم تستثن بجاية منهم، طبعا، حيث كانت تخرج لبيع منتوجات الحليب في الوقت الذي يتخذ أخوها وعائلته البيت مجلسا.

ذات يوم وافت المنية حسين، شقيق بجاية، ومن عادة الناس هناك أن يدفنوا موتاهم في مدينة النجف. وضعوا جثمان حسين فوق سطح السيارة، ولكنهم فوجئوا ببجاية نفسها تقف في مواجهة السيارة صارخة: لا تسيروا إلا على جثتي. ولم تفلح معها جميع وسائل الإقناع التي بذلت من قبل أبناء المنطقة بضرورة تخلية سبيل الجنازة. ولكن سائق السيارة طلب من الجميع التنحي جانبا. أدار محرك السيارة واقترب من بجاية بسرعة واطلق زامور السيارة، وحين مزق الصوت مسامع المسكينة ولت هاربة وهي تردد: «و.... او يبدو أن الروح عزيزة». هربت بين ضحكات الجميع. يبدو أن تلك المجموعة من الأجانب ممن نذروا انفسهم ليكونوا دروعا بشرية في الحرب ضد العراق، قد ارتضت لنفسها ان تفعل ما فعلته بجاية، حين أحست بحقيقة الموقف المتمثل بصدق نية واشنطن وجديتها في توجيه ضربة للعراق، فآثر افراد المجموعة ترديد ما ردده أحد اخواننا العرب الذين تطوعوا للحرب إبان الحرب العراقية ـ الإيرانية. فأخونا هذا يظن أن الحرب لعبة، أو أن التطوع بحد ذاته لعب ايضا، ولكنه حين شعر بحرارة الموقف انسحب هاربا، وحين عيره من كان معه أجابهم قائلا: «ألف جبان ولا الله يرحمو».

إن الوقوف موقف الفدائي بحاجة إلى استعدادات كثيرة أقلها الإيمان بالهدف. فأي هدف يتمثل بالوقوف كدرع بشري أمام شخص يضع حول نفسه الآلاف من التحصينات المسلحة، والتي لا تصل إليه خلالها أقوى الصواريخ؟

إن من يكون لديه الاستعداد للموت على هذه الطريقة لهو أجلى، وأفضل مصداق للقول: أشقى الأشقياء من باع دينه بدنيا غيره. فكم من الناس من يستميت في الدفاع عمن سخر مال الله وعباده خدمة لمآربه وأغراضه الشخصية، في حين لم ينل الأول من دنياه سوى فتات موائد هذا الأخير؟

فالأخير شقي في هذه المعادلة التي أدرك خلالها أن نصيبه من الآخرة صفر، فأوغل في العيش للدنيا فنال منها حظوته العظيمة، ولكن الأشقى منه هو الأول الذي لم ينل من الدنيا ما يستحق معه خسارته للآخرة، وبالتالي فهو خاسر للاثنين معا، لذا عبر عنه بكونه أشقى الأشقياء. إن النظام الذي ينذر البعض نفسه فداء له قد عاد لسد الفراغ الذي أحدثه انسحاب الفدائيين من الأجانب، والذين لا سلطة له عليهم، عاد لسد الفراغ ولكن بواسطة فتيان في مقتبل العمر، يستجلبون من بين أهاليهم بشتى الطرق والوسائل، وذلك ما اضطر الأهالي إلى تهريب أبنائهم إلى مآمنهم، وهل يرتجى مأمن في وطن زرعت فيه أجهزة التنصت تحت كل حجر ومدر؟

ترى، هل كتب على هذا الشعب أن يكون صنوا للمآسي والمحن؟

فهذه الظاهرة ـ وقوع الشعب العراقي في المحن منذ القدم ـ تثير العجب حقا، فهي ظاهرة تستدعي التوقف عندها ومعرفة الأسباب التي جرت وما زالت تجر الويلات على هذا الشعب.

فقد قيل بأن النفط الذي يطفو العراق على سطح بحيراته هو السبب الذي قاد إلى خلق ما من شأنه أن يقهر إرادة هذا الشعب تمهيدا للعب بمقدراته، وتسخير إمكاناته للأغراض الشخصية.

قد يكون هذا التحليل صائبا إلى حد ما، ولكن هل يمكن جعل النفط سببا في الفترة التي سبقت اكتشافه، حيث كان العراق، وكعادته، لا يقل ـ من جهة ابتلائه ـ عن فترة ما بعد النفط؟

وقيل إن الانتماء المذهبي، والموقف السلبي لأبنائه من أنظمة الحكم، كانا السبب في جعلهم غير مرضيين على تلك الأنظمة التي أوغلت فيهم قتلا وتعذيبا وتشريدا حتى امتلأت بهم أرجاء الأرض تحت أقسى الظروف التي يمكن أن يعيشها إنسان. ومع ذلك نقول: إن العراق لم يكن البلد الوحيد الذي يحمل هذا النوع من الانتماء، ولم يتفرد بهذه المحن دون غيره ممن يشاركونه ذلك الانتماء؟

وقيل: إن السبب في كل ما يعيشه الشعب العراقي من أزمات هو غياب الديمقراطية عن هذا البلد عبر تاريخ طويل، والحال أن غياب الديمقراطية لا يعني غير التسلط على رقاب أبناء الشعب بالسيف.

وهذا السبب لم يكن مقنعا أيضا، إذ أن العراق، وكما هو ثابت، هو المهد الأول للديمقراطية الحقيقية لا الصورية.

إن هذه الظاهرة محيرة حقا، والمحير أكثر ما ستأتي به الولايات المتحدة الأميركية للعراق ما بعد نظام العراق الحالي، فهل سينطوي على خير يسدل معه ستار المآسي التي رافقت العراق على مدى قرون، أم أنه حلقة أخرى في سلسلة تلك المآسي؟

* كاتب وباحث عراقي