رجال يختفون ورجال يظهرون

TT

الحرب تسبق جميع الكلمات. وجميع التحليلات، وجميع الانباء العاجلة. وقد تسبق مخططيها وراسميها. لان الحرب سباق بالاسلحة وسباق بالموت، وسباق نحو مرمى واحد: اما الربح واما الخسارة. اما الصمود وإما الانهيار. لا حلول وسطية بعد الانفجار الكبير. ولذلك نعيش الآن جميعاً خلف زر الاخبار. ونعرف ماذا نريد ان نسمع لكننا لا نعرف ماذا سنسمع ولا ماذا يمكن ان نتوقع. ولا طبيعة ونوعية المفاجآت. ولا الاسماء التي سوف تظهر غدا. ولا اين سوف تظهر. فالحرب التي تجري امام اعين العالم هي في الحقيقة حرب سرية. الاحداث فيها مموهة. والكلام فيها ليس ما يقال بل ما يخفى ويخبأ. واختفاء نزار الخزرجي في بلد مثل الدنمارك مثال بسيط على مسار الحروب لان المفروض في الحالات العادية انه اذا اختفى مقيم في بلاد مثل الدنمارك، تسقط الحكومة وألا تذهب الصحافة الى النوم، وان تردد المعارضة جملة شكسبير الشهيرة «ثمة شيء عفن في دولة الدنمارك».

العراق ايضا يلعب اوراقه السرية في الداخل. ويحاول ان يناور حتى اللحظة الاخيرة. وان يحقق بالنقاط ما لا يمكن تحقيقه بالضربة القاتلة. فاللكمة الكبرى في يد اميركا. وهي تملك القبضة الحديدية، لكن الملاكم الضعيف يملك المقدرة على اثارة عطف الجماهير، وعلى تأخير الحسم، وعلى القفز فوق الحلبة. وكلما شاحت عين صاحب القبضة تطلع الملاكم الضعيف في الجماهير وقال بيتا من الشعر. وذكر المصفقين بان ابن البادية ينازل «البي فيفتي تو»، وهو على ظهر فرس. وهو يعرف طبعاً الفرق بين قاذفات الحرب العالمية وبين صهيل الخيول. لكنه يعرف ايضاً ان لا حل آخر امامه. القاذفة تريد نصرا سريعاً يصفق له المترددون، والسيف يريد حرباً طويلة تمنحه فرصة الخسارة اللائقة. فالجديد في الحرب بين البيت الابيض وصدام حسين، ان المعركة الحالية هي المعركة الاخيرة بالنسبة الى الفريقين. ولذلك يخوضها جورج بوش على انها معركة حياة او موت، ويخوضها صدام حسين على انها معركة موت تحت راية التاريخ.

هذه المرة لا يريد ان يخسر من اجل ان يربح المعركة المقبلة بل من اجل موقعه في تاريخ المعارك والحروب. اما الحرب الحقيقية نفسها فليست ابياتاً من الشعر. انها حرب الجنرالات الذين يختفون في الدنمارك. والجنرالات الذين وصلوا الى الكويت والجنرالات الذين وصلوا الى الشمال. والجنرالات الذين لم يصلوا الى مكان بعد. والولاءات التي لم تعد في مكانها. والولاءات التي تنتظر فرصة الالتحاق بالمستجد القادم من المجهول.

ما نراه ليس هو الحرب. الحرب الحقيقية هي التي لا يراها احد. ليست حرب اسقاط النظام العراقي بل حرب النظام البديل. ليست حرب المواجهة مع فرنسا بل حرب فرز الدول الى جانب اميركا. ليست حرب مجلس الامن التي خسرتها اميركا بل حرب المنظمة الاممية التي ستقوم في ضوء نتائج العراق.

الرئيس العراقي الذي يلجأ الى الشعر والى المخبأ والى تجنب المطاردة الاميركية المعلنة للقيادة العراقية برمتها يعرف تماما انها حرب رؤوس. ويعرف تماما انه لم يحدث من قبل ان اعلنت دولة انها تقصف بقصد الاغتيال الشخصي. ولذلك قرر ان يذهب الى التاريخ. تلك هي محطته الاخيرة في هذه الرحلة الشاقة والطويلة في عالم السياسات والزعامات والحروب. رجل لا يطل على الناس الا وفي يده بندقية يطلقها في الهواء من دون ان تهتز اليد اليمنى. لكنه اذ يقرأ بيان المجابهة من مكان خفي ما، تبدو الحنجرة البشرية متهدجة اخيرا.

مواجهة لا مثيل لها في التاريخ. حرب بين دولتين، هدفها المعلن هو نظام احداهما ورجاله. حرب تأمر فيها الدولة الكبرى بأن تبعد الدولة الاصغر رئيسها وولديه، الاكبر والاصغر. الاكثر ظهوراً والاكثر صمتاً. حرب تسمي فيها صحيفة «بابل» الرئيس الفرنسي جاك شيراك بانه «المجاهد الاكبر». انه لقب لم يحلم به احد منذ ايام بورقيبة في النضال ضد فرنسا. لكن هذه هي الحرب: بوش «الصغير» وشيراك «المجاهد الاكبر». والحرب تسبق الجميع، جميع الكلمات وجميع التحليلات. وجميع الحسابات وحدها سوف تخبرنا كيف ستتطور.