جراحة سلوكية لرعاة البقر

TT

الرئيس بوش مغرم بالتشبيهات الخاصة برعاة البقر، وربما بوحي من ذلك تبادرت الى ذهني هذه الصورة. في أغلب أفلام رعاة البقر، يقوم فريق الأخيار باستمالة بعض المرشدين قبل دخول المدينة لمواجهة الأشرار. أما نحن فإننا حاليا، نفعل العكس. إننا ندخل بغداد وحدنا آملين في الحصول على المساعدين والمرشدين بعد ذلك. وآمل ان ننجح في ذلك، لأن هذا هو السبيل الوحيد لمغادرة المدينة دون اضرار تلحق بالطرفين.

طرحت في هذا العمود، ومنذ بداية الحوار حول العراق، ان إزاحة نظام صدام حسين ومساعدة العراقيين على استبدال حكومة محترمة ومسؤولة بنظامه، تكون نموذجا يحتذى في الشرق الاوسط، قضية تستحق العمل من أجلها. ولا يرجع ذلك لكون العراق يهددنا باسلحته، ولكن لأن هناك أعدادا هائلة من الشباب الذين يشعرون بالاحباط والإهانة والقمع والحرمان. ونحن لدينا مصلحة حقيقية في انشاء شراكة مع هؤلاء من اجل التغيير.

ولكن هذا العمود طرح في نفس الوقت أن هذه الحرب الاستباقية هي غير مسبوقة. ولأنها تضطلع بانجاز مهمة بالغة الضخامة، هي اعادة بناء بلاد تجمد تطورها، فإنها تحتاج الى اعلى قدر من الشرعية من الأمم المتحدة، وأكبر عدد ممكن من الحلفاء. ولكن بوش فشل في بناء هذا التحالف. ومع أن أعضاء فريق بوش جاءوا الى السلطة وفي أذهانهم هذا المشروع العراقي، إلا أنهم اتبعوا منهجا آيديولوجيا، ضيقا وابتزازيا في السياسة الخارجية، وعندما احتاجوا الى الأدلاء والمرشدين في الحرب العراقية، كان كل الناس قد نفروا منهم وتفادوهم وصاروا يشكون شكوكا عميقة في نياتهم.

قال الرئيس انه بذل جهدا اضافيا للوصول الى حل دبلوماسي، وهذا ليس صحيحا. ففي عشية حرب الخليج الاولى، التقى وزير الخارجية جيمس بيكر وجها لوجه مع وزير الخارجية العراقي، (طارق عزيز)، في محاولة أخيرة للوصول الى السلام، جعلت كل العالم يشعر بان العراق هو الذي يرفض تجنب الحرب. أما هذه المرة فقد شهد العالم الرئيس بوش وهو يقوم برحلة واحدة، لا يمكن حتى ان يقال انه عبر فيها الاطلسي، محاولا تسويق الحرب للحليفين الوحيدين المقتنعين بها أصلا. ولا يعني هذا أننا نسامح فرنسا التي لعبت دورا مشينا في عرقلة وصول مجلس الامن الى برنامج مقنع لنزع الاسلحة. ومن نافلة القول اننا لا نعفي صدام.

وها نحن على كل حال، نخوض هذه الحرب، منفردين أساسا، وفي وجه معارضة لا يهدر بها «الشارع العربي»، بل يضج بها «الشارع العالمي». ومع أن الجميع يتمنى لو أن الامور سارت على غير هذا المنوال، إلا أن الوقت اصبح متأخرا جدا. ولهذا السبب فان هذا الباب سيحاول منذ هذه اللحظة تحويل هذا «الفسيخ الى شربات»، فمستقبل اطفالنا يعتمد على إنجاز هذه المهمة على الوجه الصحيح حتى ولو وصلنا إليها عن الطريق الخطأ.

رؤية الرئيس هي ان هذه الحرب، المفتقرة الى شرعية الامم المتحدة، ستكتسب «شرعيتها الذاتية» عندما يشاهد العالم المواطنين العراقيين وهم يستقبلون القوات الاميركية استقبال الفاتحين. واعتقد أن هناك فرصة كبيرة ليكون ذلك صحيحا. ولكن الحروب تخاض لتحقيق اهداف سياسية. ولا يمكن ان تكون هزيمة صدام كافية لتحقيق هذه الاهداف التي يمكن تلخيصها فيما يلي: بروز عراق تقدمي، وعالم يقل فيه الارهابيون المصممون على تدمير الولايات المتحدة، حتى يشعر المواطن الاميركي بالأمن في وطنه وخارجه. وهذا يعني على وجه التحديد ان نضطلع بأي عبء مهما ثقل، وأن ندفع كل ثمن مهما كان باهظا، لنحول العراق الى بلد يمكن لكل المنصفين إذا رأوه أن يقولوا: «هذا عمل عظيم. لقد أوفت أميركا بما وعدت».

ومن أجل انجاز هذه المهمة فاننا نحتاج الى اصلاح ذات البين مع بقية العالم. فالحصول على مزيد من الحلفاء سيسهل علينا اعادة بناء العراق، أما إذا توسعت الشروخ التي نشأت بيننا وبين أصدقائنا التقليديين وتحولت الى عداء، فانه سيصبح من الصعب علينا ادارة العراق ومواجهة المصاعب التي سيخلقها ذلك فيما بعد. وهذا يعني أن فريق بوش يحتاج الى «جراحة سلوكية»، أي أنه يحتاج الى مغادرة برجه العاجي والشروع في التفاهم مع الناس في كل مكان في الشارع العالمي والاستماع إلى آرائهم وشكاواهم، وكذلك الحديث إليهم عن همومنا ومشاغلنا.

قبل 35 سنة كسبت اسرائيل حربا في ستة أيام. وتعاملت مع نصرها ذاك على أساس أنه سيحقق «شرعيته الذاتية». ولكن جيرانها لم ينظروا اليه على هذا الاساس. وظلت اسرائيل واقعة في براثن اليوم السابع حتى هذه اللحظة. ولم تستطع بالتالي، أن تحول ذلك النصر الدرامي الى سلام يشعر معه الاسرائيليون انهم اكثر أمنا. وقبل خمسين سنة كسبت اميركا حربا ضد الفاشية الاوروبية، عززته بخطة مارشال لاعادة البناء، والتي كانت إعانة ودعما، جعل الاميركيين يحظون بالترحيب في كل انحاء العالم. هذا اليوم هو يوم الهجوم الكبير بالنسبة لجيلنا، فهل ستكون لقادتنا حكمة أسلافهم من جيل العمالقة؟

* خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»