العرب ما بعد الحرب

TT

حقاً ان الحرب على العراق أحدثت تغييرات عديدة على الأوضاع في العالم كله، لكنها بالنسبة للعرب أكثر حدة لأنها تقع في الأرض العربية بغرض تغييرات مباشرة هي إعادة تشكيل المنطقة بما يتفق مع المصالح الاميركية على حد تعبير وزير الخارجية الاميركي كولين باول.

فما هي المصالح الاميركية؟ هل هي السيطرة على بترول الشرق الاوسط؟ ربما كان هذا صحيحاً، ولكن واقع الحياة اليومي يبين ان المصالح البترولية العربية ليست متناقضة مع المصالح الاميركية وأن الولايات المتحدة ليست لديها شكوى من هذه الناحية، ونحن نعرف أن منظمة الأوبك كثيراً ما تجامل الطلبات الاميركية كلما بدأت أزمة في الأسعار فتسرع الى زيادة ضخ البترول بما يساعد على خفض الأسعار.

والصداقة الاميركية العربية، خصوصاً في الدول البترولية على أحسن ما يكون وحتى عملية تطويع الدين واستخدامه سياسياً طوال الحرب الباردة كان بالاتفاق مع الأجهزة الاميركية ومثقفيها أو مسؤوليها، وقد أمكن صياغة فكر ديني سياسي يضرب بالسيف الاميركي، سواء من الناحية العسكرية أو من الناحية الايديولوجية لمقاومة الأفكار الراديكالية التي انتشرت في الشرق الاوسط إبان الحرب الباردة، ولأسباب عديدة لا ترجع الى مهارة الأجهزة الاميركية بقدر ما ترجع الى ظروف العالم العربي ومشاكله المركبة نجحت هذه السياسة وصار من السهل استمالة قوى اجتماعية متعددة في العالم العربي للاندماج في الاستراتيجية الاميركية، ومنذ بدايات السبعينيات لم تعد هناك مشاكل حقيقية مع اميركا وصارت دول المنطقة بشكل عام مرتبطة بالصداقة مع الولايات المتحدة وحريصة على التجاوب مع أهدافها، والشيء الوحيد المتناقض هو الصراع الاسرائيلي ـ الفلسطيني وصعوبة الوصول الى اتفاق ينهي الصراعات ليس بين الفلسطينيين والاسرائيليين فقط بل بينهم وبين العرب بصفة عامة.

ومن الناحية الواقعية كان للنموذج الاميركي جاذبية لدى كثيرين من أبناء العالم العربي، وتزايد هذا الاعجاب ونما بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط المعسكر الاشتراكي ووهن ايديولوجيته وهناً شديداً، وكان النظام العراقي بقيادة صدام حسين يجد الدعم الاميركي في حربه ضد إيران، أما بقية الدول العربية بما فيها مصر التي انطلقت منها الأفكار الراديكالية فكانت علاقاتها بأميركا في أحسن أحوالها، والمشكلة الوحيدة التي تجعل الحكومات العربية تشعر بالقلق هو التحيز غير الموضوعي لاسرائيل وسكوت الولايات المتحدة التام بل تأييدها للانتهاكات الرهيبة التي تقوم بها اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، ولأمر ما لم تستطع الادارة الاميركية ان ترى حلا للمشكلة عن طريق التجاوب مع الحقوق الفلسطينية ولو في حدودها الدنيا. وشيئا فشيئا انحصرت رؤيتها في ضرورة فرض الهيمنة الاسرائيلية على المنطقة والتجاوب مع المشروع الاسرائيلي الذي يحتضنه غلاة اليمين الاسرائيلي.

إذن فالمشكلة القائمة الآن في الشرق الاوسط ليست هي أسلحة الدمار الشامل بل تغيير خريطة الشرق الاوسط وتحويرها بحيث تقبل راغمة الهيمنة الاسرائيلية، والولايات المتحدة تدين صدام حسين وهو يستحق هذه الادانة بغير شك، لانه ضرب شعبه الكردي بقنابل الغازات السامة، بينما لم تستعمل اسرائيل حتى اليوم سلاحا من تلك الاسلحة الفتاكة، متناسية الفظائع التي حدثت للمدنيين اليابانيين في هيروشيما ونجازاكي وكان من الممكن الوصول الى نفس النتائج أي انهاء الحرب لو اطلقت هذه القنابل في صحراء فارغة كانذار للادارة اليابانية.

المهم ان أهداف الحرب ضد العراق لا تستهدف البترول العراقي بقدر ما تستهدف توطيد الوجود الاسرائيلي وهيمنته في المنطقة وتغيير الثقافات القائمة غير القادرة على ابتلاع فكرة الوجود الاسرائيلي وهيمنته، ولذلك لدى الولايات المتحدة مشروعات لتغيير مناهج الدراسة في المدارس والجامعات وفي مراكز الاعلام ومنابر الفنون المختلفة بحجة تجريد الثقافة العربية من نوازع العنف الكامنة في الثقافة السائدة الآن.

ومن المعروف ان اللجان المسؤولة عن اعداد ملفات القرارات الاميركية بشأن الشرق الاوسط مكونة من غلاة اليمين الاميركي اليهودي الصهيوني، حتى ان بعض الاميركيين بدأوا يستريبون في صحة الاهداف المعلنة ويشيرون الى ان كل هذه الضجة تسعى الى تحقيق اهداف اسرائيلية صهيونية وليس أهدافا اميركية.

الموضوع إذن يتعلق بمستقبل العالم العربي في ظل هيمنة اسرائيلية بدعم اميركي، وها نحن أولاء نرى عودة للاشكال الاستعمارية القديمة ومنها الاحتلال الكولونيالي المتمثل في احتلال الجيوش الاميركية، واحتلال الجيوش الاسرائيلية، فهل على العالم العربي الذي لم يكد ينتهي من مرحلة عصيبة كافح فيها قوى الاحتلال حتى أمكن التخلص منها بقواه الذاتية أو بمساندة الظروف العالمية التي اعقبت الحرب العالمية الثانية أن يعيد الكرة من جديد ويدخل في مرحلة شاقة أخرى؟

لا شك ان نتائج الحملة العسكرية الاميركية على العراق هي التي ستبين نوع الاستجابة، فالوضع في العراق قد يختلف عن الاوضاع في بلاد عربية أخرى، لكنه اختلاف في الدرجة فهو حكم غير ديمقراطي وله ضحايا كثيرون في صفوف المعارضين وربما كان اللاجئون العراقيون في هذا البلد الأوروبي أو ذاك أكثر من لاجئي أي شعب آخر، الأمر الذي يسمح للقيادة الاميركية ان تدعي انها ذهبت الى العراق لتحرير الشعب العراقي من الحكم الديكتاتوري، وانه بناء على ذلك نرى بعض القطاعات الشعبية العراقية مضطرة الى تصديق ان الغاية من الحرب هي تحرير الشعب العراقي.

وبالفعل تظهر قوى عديدة سواء بين الاكراد أو العرب أو الشيعة والسنة لا يعارضون الحملة العسكرية على العراق وان كانوا يحذرون من ان تسفر الحملة عن حكم عسكري اميركي وما يستتبع ذلك من مخططات لا علاقة لها بالديمقراطية التي اتخذت ذريعة للتدخل العسكري، على انه من المؤكد ان الوضع كان سيتغير تماما لو أن النظام العراقي قام على أسس ديمقراطية والتحم بالشعب مثل حركات التحرير الاخرى التي عرفت في أكثر من موقع مثل الحرب الفيتنامية والجزائرية.

وأظن أن أكبر نقطة ضعف في الساحة العربية هي افتقار الكثير من الأنظمة السياسية الى الديمقراطية والتي لم تكد تقر أي حقوق لشعوبها، ولقد استطاعت الولايات المتحدة ان تستصدر القرار رقم 1441 من مجلس الأمن والذي يبيح تجريد العراق من اسلحة الدمار الشامل بواسطة المفتشين الدوليين، ذلك ان سمعة النظام العراقي كانت سيئة من حيث قسوته على شعبه وقيامه على أسس ديكتاتورية ذات طابع أبوي لا يحترمه أحد في صفوف الرأي العام العالمي، ولا شك ان مشروعات الولايات المتحدة كانت ستجد اعتراضات كثيرة وربما كان من الصعب استصدار القرار المذكور واضعاف المركز الاميركي وتعجيزه عن المجاهرة بالعداء.

ان الولايات المتحدة تخوض حرباً تعتقد انها ستجد تأييداً من بعض القطاعات العراقية، ولعلها تعتمد على هذا في تبرير حربها أمام الرأي العام العالمي، واذا حدث هذا فإن الحملة الاميركية ستفلت من العزلة التي تحيط بها الآن بسبب انفرادها بالتصرف بعيدا عن الأمم المتحدة وهذه المخاطر لا تكاد تختلف عن سائر البلاد العربية الأخرى المتهمة بشكل أو بآخر بأنها ديكتاتورية ولا تحترم شعوبها.

والواضح ان الاعتراضات التي واجهت المشروع الاميركي- الاسرائيلي جاءت من المنظمات الشعبية وساندت القيادات السياسية التي رفضت العدوان، بينما كانت المنظمات الشعبية العربية، على ندرتها وافتعالها في الكثير من الاحيان، هي اضعف حلقات الاحتجاج في العالم كله، وهو شيء خطير فيما لو نجح الضغط الاميركي - الاسرائيلي وأمكنه بالفعل تغيير خريطة المنطقة بما يتفق مع تلك المصالح، لأن حشد الناس أو بداية المقاومة ضد مشروع الاحتلال والهيمنة الجديدين سيكون في أضعف حالاته بسبب هيمنة أنظمة بوليسية تتحرز من أي خطوة شعبية في اتجاه رفض الاحتلال ومقاومته، ان هذا التردي في الانظمة العربية هو المسؤول الأول عن الاطماع السافرة في العرب وممتلكاتهم وحرياتهم ولا بد من تصحيح الوضع بأسرع ما يمكن.

ولكن اذا أطللنا على العالم الخارجي لوجدنا اننا نعيش فترة تشبه بداية الحرب العالمية الثانية عندما بدأت المانيا النازية تغزو تشيكوسلوفاكيا وبولندا وتعلن عن بداية الرايخ الثالث وقد سكت العالم أولا ولكن التوسع الالماني ارغم الدول على ان تعلن الحرب، اليوم تتقدم الولايات المتحدة بأطماعها الامبراطورية وتهدف فيما تهدف إليه الهيمنة على منطقة الشرق الاوسط التي تعتبر مركزا استراتيجيا للمواصلات للعالم كله فضلا عن انها أكبر مخزن للبترول في العالم، وليس من المعقول ان دول العالم وفي مقدمتها الاتحاد الاوروبي ان تظل صامتة الى أمد طويل دعك من الدول الأخرى مثل الصين والهند واليابان وروسيا الاتحادية بطبيعة الحال.

وعلي الرغم من حالة الإحباط السائدة فإني لا أعتقد ان المشروع الاميركي ـ الاسرائيلي من الممكن ان ينجح وان الرأي العام العالمي خارج الولايات المتحدة هو وحده المقاوم لهذه النزعة الامبراطورية المرتبطة على الرغم منها بمأزق عنصري مرفوض في عصرنا الحديث يمثله المشروع الصهيوني الذي يزداد اقترابا يوما بعد يوم الى مفاهيم دينية وعرقية من الصعب ان يتقبلها أحد في القرن الواحد والعشرين.

ومهما يكن من أمر فإن الشارع العربي ـ حتى مع صمته ـ يصدر اشارات عديدة تسفر عن إرهاص بالحركة ومواجهة كل أشكال العدوان المحتملة.