انقلاب في السلوك الدولي وفي تاريخ المنطقة

TT

لو حدث انقلاب داخلي في بغداد، لقلنا إن صفحة قد طويت وفتحت صفحة اخرى. لم يكن لأحد أن يحزن على سقوط نظام، ولم يكن لأحد أن يزيد على إبداء التساؤل عن هوية الانقلابيين الجدد. لكن ما يتراءى في الأفق ليس انقلابا من قبيل ما عهدناه، ولا يمس العراق وحده، ولا يقتصر أثره على المنطقة العربية وحدها.

أكتب هذا المقال بعد خطاب الإنذار، وقبيل الضربة العسكرية بساعات. وأرى أن ما يحدث الآن هو انقلاب في تاريخ المنطقة العربية وفي السياسة العالمية. إن Iهناك نظاما عربيا يتعرض لضربة عسكرية أجنبية من دون ان يكون هناك موقف عربي إجماعي. ليس الموقف مثل 1956 ولا مثل 1967. إن الذين هم، من بين العرب، ضد إطالة عمر النظام المستهدف لهم ما يحملهم على أن يجاهروا بلا هوادة بموقفهم. الذين هم ضد الضربة العسكرية بذرائع يتداخل فيها الذاتي والموضوعي لهم حججهم.

أفكر في الدواعي التي حركت وجدان تلك الأسرة المغربية التي تسابق افرادها من أجل التسجيل في لائحة المرشحين للمشاركة في الدروع ببغداد، وأكبر فيهم وغيرهم من المشاركين تقمصهم لمشاعر كاد يحتكرها الشارع الأوربي، فيما تعلقت عواصمنا بالفيتو الذي يمكن أن يصدر عن هذه الدولة الكبرى أو تلك. هناك تفاصيل عديدة وراء هذا الموقف تحيلنا على مسيرة طويلة يكتنفها التيه والضياع أدت إلى حالة تجعل كل دولة عربية تنطلق من حساباتها الخاصة. وليس ذلك عيبا في حد ذاته، وإنما العيب في أن تلك الحسابات الخاصة لا تؤدي إلى حساب إجمالي يكون محصلة للحسابات المنفردة.

وهذا الوضع الذي هو إعلان نهاية ما كان يسمى في أدبياتنا القديمة بالنظام الإقليمي العربي، هو إعلان نهاية حقبة من تاريخ العالم كان قوامها حفظ ماء وجه الشرعية الدولية من خلال المشاورات التي تتم في إطار السياسات المتعددة الأطراف. فها هو قرار أحادي يعلن نهاية دور الأمم المتحدة، ويظهر من الإقدام عليه أن كل ما تردد بشأن القرار 1441 كان للتمويه وأن الغرض غير المعلن هو أنه لا يمكن التوصل إلى نزع أسلحة الدمار الشامل بدون التخلص من النظام القائم في بغداد. وهو غرض لا تبرره الشرعية الدولية ولا يقيم وزنا للمخاطر التي ستجلبها الضربة العسكرية المقررة سواء في المنطقة العربية أو في العالم.

إن العزم القوي الذي يخامر الإدارة الأميركية وبالذات فريق الصقور المحيط بالرئيس بوش ظاهر منذ شهور عديدة. والرهانات التي حدت ببعض الدول الكبرى إلى أن تتخذ المواقف التي اتخذتها منذ الصيف الماضي كانت من طقوس مرحلة في العلاقات الدولية يظهر أنها انتهت الآن.

والطبيعة الأحادية لقرار واشنطن بادية للعيان، وليس هناك إجماع عليها حتى في الدائرة الضيقة جدا لمؤيدي توجيه ضربة عسكرية للعراق، والمشاركات القليلة إلى جانب موقف واشنطن، مترددة ما بين عدم المشاركة بالمقاتلين وبين المشاركة بمساهمة إنسانية، وفي كل هذا هناك عين على البيت الأبيض وعين على اهتزاز الأرض في الشارع والبرلمانات.

إنه القلق الذي يسم المرحلة الجديدة التي دخل فيها تاريخ العالم وعنوانها الكبير هو إيمان القوة الأعظم في العالم بأنها أعظم من أن تلتفت إلى ضرورة الحصول على تزكية من المجتمع الدولي، إذ لم تعد في حاجة إلى المجتمع الدولي.

في مظاهرة بمدريد في الأسبوع الماضي، قرئ نص تبناه المشاركون كتبه ساراماغو (نوبل البرتغالي للآداب) جاء فيه على الخصوص: لا نتظاهر لإنقاذ صدام ونظامه. يكذب من يقول ذلك. إننا ضد من يريدون الحرب، ونحن نقول لهم لن نترككم في سلام.

الملايين التي خرجت إلى الشارع في كثير من بلدان العالم، لم يحركها إلا العداء للحرب. إن ما حدث في الأشهر الأخيرة هو يقظة مجتمع مدني عالمي يريد أن يقول للحكومات المنبثقة عن انتخابات إنها غير مخولة لمسايرة طبول الحرب، وانها يجب أن تسمع ليس فقط إلى البرلمانات التي تستمد منها شرعيتها، بل أيضا إلى نبض الشارع.

والموضوع من قبل ومن بعد ليس هو المواجهة بين بوش وصدام، بل الموضوع هو أن هناك حربا يحدد توقيتها الضغط المتمثل في اقتراب موعد تجديد الولاية للرئيس الأميركي، ويتحدد هدفها المعلن والمبطن إلى جانب الحسابات الانتخابوية بمصالح المركب الاقتصادي العسكري القريب من دائرة القرار في واشنطن.

والموضوع ليس العراق وحده، بل إن السيناريو المخطط للعراق هو مدخل لإحدث انقلاب جيولوجي في الشرق الأوسط، يؤدي إلى تغيير شامل وجذري في القيادات والتوجهات، بالكيفية التي تتلاءم مع حسابات ونظرة الفريق الحاكم في الولايات المتحدة حاليا، بعد أن طال انتظار أن تغير شعوب الشرق الأوسط ما بأنفسها.

إن ما أعلنه الرئيس بوش منذ حوالي ثلاثة أسابيع رسميا هو انه من الضروري أن يتولى زرع الديموقراطيا في الشرق الأوسط، بأن ينزل من السماء علبة مغلفة فيها صيغة ديموقراطية جاهزة للاستعمال، وما هي إلا بضعة أشهر حتى ينعم العراقيون بمؤسسات تحررهم مما أخضعوا له عقودا. الدكتاتوريا جاءته قسرا والديموقراطيا ستحل بنفس المنهج.

زميلي في لجنة التحكيم لجائزة 3 مايو للصحافة، فيطون سوروى المناضل الصنديد من اجل الحريات في كوسوفو، كتب مقالا يقارن فيه بين صدام وميلوسوفيتس. وليس لنا ما نعلمه لرجل عانى الأمرين من جراء مقاومة نظام دموي يمثل المسؤول عنه الآن امام محكمة. علي المعارضين لعملية العراق أن يجنحوا بخيالهم إلى «اليوم التالي» للضربة الذي يظل كابوسا محيقا ريثما يكتشف العراقيون ما اكتشفناه في كوسوفو في «اليوم التالي» بفضل العزيمة الأميركية وحدها. يرى فيطون سوروى أن القنابل يمكن فعلا أن تأتي بالديموقراطيا، ويستدل على ذلك بالتجربة التي مر بها شعبه.

لكن البلقان لم يكن فيها شارون، وليس فيها خريطة تزعزع المنطقة كلها. إن ساندروم شارون هو التي يتصدر المشهد في الشرق الأوسط، ويجعل قراءة فريق بوش للأوضاع تثير المخاوف والشكوك، في بلدان دخلها الغربيون وهم يزفون الوعود، ويتنكرون لكل ما وعدوا به.

إن الصفحة التي يفتحها بوش وصحبه إشارة إلى أن الدول الصناعية ستستنبط من المسعى الحالي للرئيس الأميركي منهجا تملي به إرادتها على دول الجنوب. فالقاعدة ستصبح هي أن الدول القوية مخولة أن تفرض قرارتها على الدول التي تصنفها بملء إرادتها بأنها شريرة.

قبيل الصيف الماضي كانت هناك حملة شعواء قامت بها إسبانيا وبريطانيا وإيطاليا وهولندا لتحميل دول جنوب المتوسط كل المسؤولية في استشراء ظاهرة الهجرة السرية، وتداعت هذه الدول في مؤتمر بإشبيلية ألبت فيه أعضاء الاتحاد الأوربي على اتخاذ سياسة مشتركة طابعها التشدد إزاء الدول المصدرة وكذا الدول التي يعبرها المهاجرون الباحثون عن شغل في أوربا.

وعارض تلك السياسة كل من فرنسا وبلجيكا واليونان والسويد مما أجل إلى حين السياسة الخشنة التي دعا إليها المتشددون. وكان هؤلاء يشيرون بأصبع الاتهام إلى دول بعينها، ويطالبون بإلحاق العقوبات بها. ونذكر أن دولا أوربية شكلت في 1993 قوات مشتركة للتدخل في شمال أفريقيا لمواجهة ما سمته الدول الأوربية حينئذ بالخطر الأصولي.

وهكذا فإن الدول الصناعية متحفزة لتجنيد «الشرعية الدولية»، كما تفهمها لفائدة إملاء إرادتها. وستستوحي من منهج بوش سلوكات جديدة كان يلجمها في الماضي القريب توازن هش يسود في إطار السياسات المتعددة الأطراف والحاجة إلى تزكية من المحافل الدولية. وخطاب الإنذار ينهي كل هذا ويعلن بدء جحيم عسكرة العلاقات الدولية.