المسكينتان و... «قادسية بوش»

TT

مسكينة راشيل كوري، الصَبيَّة الاميركية الحلوة ذات الثلاثة والعشرين ربيعاً. فقد ضاعت بطولتها في خضم الحماقات التي يقترفها كواسر الإدارة الأميركية المندفعون بقوة الإعصار في اتجاه الحرب، أو «قادسية بوش» اذا جاز التوصيف، جارفين في طريقهم الشرعية الدولية ومنظمة الأمم المتحدة، وضاعت في خضم المماحكات الفلسطينية المتعلقة بالترتيبات التي يشترطها الرئيس جورج بوش الابن على السلطة الوطنية العرفاتية التي نتفوا لها ريشها ولم يبق سوى الوبر الذي لا يردع عدواناً. وهي مماحكات تتعلق باستحداث منصب رئيس الوزراء الذي استقر الأمر على أن يكون محمود عباس (أبو مازن) الذي لا اعتراض عليه من حيث المبدأ من جانب الإدارة الأميركية والذي هنالك شبه ترحيب بمقدمه من جانب الشارونيين. ولقد طال أمد المماحكات لكثرة الأخذ والرد في شأن الصلاحيات التي ستعطى إلى هذا الرئيس المرتبط الرضى الكامل عنه بقدرته على إنهاء الانتفاضة وإعلان «أمركة» القضية الفلسطينية. كما أن بطولة الصبيّة الأميركية راشيل كوري ضاعت في خضم هدايا الشارونيين لمناسبة تحقيق المطلب الأميركي ـ البريطاني ـ الإسرائيلي والمتمثل باستحداث منصب رئيس الوزراء وإسناد المنصب إلى أبو مازن. والهدايا في معظمها اعتداءات وتدمير بيوت واغتيال قيادات جهادية واعتقالات وصمت دولي على ذلك لانشغال البال بالموضوع العراقي.

لقد كنا نتوقع ونتمنى في الوقت نفسه أن يقف أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني دقيقة صمت حداداً على الواقعة المأساوية للصبيَّة الأميركية، لا أن يكون الجميع غارقين في مناقشة أمور تتعلق بمنصب رئيس وزراء دولة لم تولد بعد وحِرص المناورين داخل كواليس البرلمان الفلسطيني على أن لا تتأثر صلاحيات أبو عمار الذي هو الآخر رئيس بلا دولة. وكنا نتوقع ونتمنى على أساس أن الصبيَّة الأميركية الحلوة إبنة الثلاثة والعشرين ربيعاً راشيل كوري جسدت قمة البطولة عندما تصدت بقامتها يوم الاحد 16 مارس (آذار) الجاري لجرافة إسرائيلية كانت تهدم منازل فلسطينيين وتجرف أراضيهم في رفح جنوب قطاع غزة، فلم يهتم الجارف الشاروني المعتدي بنبل مقصدها فجرفها هي الأخرى محطماً جمجمتها وأطرافها. ولقد حدث ذلك بينما ثلاثي الحرب بوش ـ بلير ـ أزنار يلتقون في الجزيرة البرتغالية ذات التاريخ المخزي كونها جزيرة قراصنة البحر، ويتفقون على أن الحرب أهم من القانون الدولي وأن مغانم الحرب أهم من منظمة الأمم المتحدة وأن الإنجاز المبهر الذي يتمنى هذا الثلاثي الرئاسي تحقيقه هو أن يجرفوا هذا المد الهائل من الناس الذين يفعلون بحناجرهم في معظم دول العالم ومن خلال المسيرات والتظاهرات المناوئة للحرب ما فعلته راشيل كوري بقامتها. في الحالتين كانت هنالك مواجهة جسورة للشر.

ماتت الصبيَّة الحلوة من دون أن تهتم «ماكينة» الإعلام في بلادها وفي دول معسكر الحرب البوشية عموماً. وهي لو كانت قضت نتيجة مشاركتها في تظاهرة ضد صدام حسين أو ياسر عرفات وأصابتها رصاصة شرطي عربي أو صدمتها خطأً سيارة رجال أمن وأودت بحياتها لكانت «ماكينة» الإعلام حوّلتها الى «جان دارك» الألفية الثالثة ولكانت شركات الإنتاج في هوليوود تتسابق لتحويل قصتها إلى فيلم الأفلام. أما وأنها ماتت أبشع ميتة وتحت جنازير جرافة شارونية فهذا مجرد قضاء وقدر في نظر الشارونيين بطبيعتهم الصهيونية والمتصهينة.

ما يلفت الانتباه ليس فقط موقف إسرائيل و«ماكينة» الإعلام الأميركية من واقعة راشيل كوري التي حاولت وقف التدمير والتجريف الشاروني بقامتها التي هي مثل غصن شجرة زيتون، وإنما الذي يلفت الانتباه ايضاً هو أن الفضائيات العربية المشغولة بمباريات ملكات الجمال وسباق الأغاني والمسابقات المعلوماتية واختيار نجوم المستقبل في عالم الغناء، لم تجد متسعاً من الوقت لإلقاء الضوء المبهر على بطولة الصبيّة الأميركية التي مارست الاستشهاد بالطريقة التي تجعلنا ننحني أمامها وتوجب علينا الأخذ في الاعتبار أن في أميركا أصحاب ضمائر حية بمثلما هنالك أشرار يستعذبون الحروب، وأن الصبيَّة راشيل كوري التي افتدت حياتها من أجل نصرة المظلوم ضد الظالم تستحق أن تكون التمثال الآخر للحرية إضافة إلى التمثال الفرنسي النحت الذي تتباهى أميركا بشموخه في نيويورك، وذلك لأنها نموذج لكل أميركي يرى أن الله سبحانه وتعالى يحرّم القتل ويحرّم العدوان وأنه خلق الارض لكي يحرثها البشر ويزرعوها ويبنوا فوقها ولم يخلقها للجرافات الشارونية وبقية مغامرات وحروب بعض حكام هذا الزمان بالذات.

المسكينة الأخرى هي الأم العربية المكلومة وبالذات الأم العراقية ومعها أختها الأم الفلسطينية ومن قبلهما الأم اللبنانية اللواتي واجهن من عاديات الدهر ما لم تواجهه أُم في ديار الأمة. واذا كنا سنستعيد من الذاكرة الاهوال التي واجهت الأم اللبنانية طوال ست عشرة سنة منذ اندلاع الحرب في نيسان (ابريل) 1975 وحتى اعلان اتفاق الطائف الذي ما كان ليتم التوصل اليه لولا لهفة ونخوة مَن استضاف ومن قام بواجب الرعاية حتى اللحظة الاخيرة، اي المملكة العربية السعودية شعباً وقيادة، فإن ذلك يحتاج الى مسلسلات. ولكن الذي يمكن قوله عن تلك الاهوال هو أنها كانت بثقل الجبال، كما انها في بعض مراحلها بمثل الاهوال التي نتابعها يومياً عبر شاشات الفضائيات التي تتولى البث الحي من مدن الضفة الغربية وقطاع غزة لما تعيشه الأم الفلسطينية على مدار الساعة حيث انها إما تبكي ابناً أو شقيقاً أو زوجاً أو والدة أو والداً أو طفلاً ما زال رضيعاً أو تتحسر على مأوى ارتضت ذله، ومع ذلك لم يرحمها القصف الشاروني ولا ترفّق بحالها المعتدي الإسرائيلي الذي يجوب المخيمات وشوارع البلدات الفلسطينية من بيت لحم إلى رفح بجرافات تدمّر البيت أمام من فيه... وعلى من فيه في حال أن ساكن هذا البيت قرر أن يصمد في هذا البيت. ومن المؤكد أن هذه الاهوال التي نشير إليها كانت من جملة دوافع الصبيَّة الاميركية راشيل التي تصدّت بقامتها للجرَّاف الشاروني فلم يوقف هذا اللعين جرَّافته محطماً جمجمة تلك الأميركية النبيلة التي لا يعنيها النفط ولا المغانم، كما أنها تريد أن تكون إبنة الدولة التي تستعمل القوة من أجل الاستقرار وليس من أجل وضع اليد على الآخرين، ذلك أن أحفاد الامبراطوريات الراحلة لم يفدهم في شيء أن أجدادهم كانوا أباطرة أزمانهم.

الآن نحن أمام المشهد الأكثر إيلاماً على النفس حيث ان الأم العراقية التي اكتوت بأهوال الحصار وفقدان بعض فلذات الأكباد نتيجة فقدان الدواء والافتقار الى الرعاية الصحية المناسِبة، تواجه اهوال «قادسية بوش» كأنما برئت الجراح الناشئة عن «قادسية صدام» طوال ثماني سنوات تليها مباشرة جراح «أم المعارك»، وكأنما ما زال في جدار غرفة الاستقبال في البيت مكان للمزيد من صور الذين قضوا من اجل لا شيء ودفعوا حياتهم ثمناً نتيجة أن العناد كان سيد الموقف. وتأتي اهوال «قادسية بوش» في اليوم الذي هو عيد الأم وتكون الهدية لها... ومنها الى كل ام عربية تتحسس محنة اختها العراقية ومحنة اختها الفلسطينية ومحنة الأخت اللبنانية من قبل، مع ان الهدية التي تليق بهذه الأم هي رفع الحصار عن بلدها لكي تداوي جراح عشرين سنة من المعارك والحصار.

خلاصة القول: مسكينة راشيل الاميركية المجروفة على أيدي الشارونيين الذين تلقوا ساعة بدء «قادسية بوش» تسعة مليارات دولار هي عبارة عن ضمانات قروض تمتد على اربع سنوات اضافة الى هِبة عسكرية بقيمة مليار دولار. وقد اعلنت هذه «البشرى البوشية»، مستشارة الأمن القومي، كونداليزا رايس التي اتصلت لهذا الغرض بوزير المالية الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وابلغته وهي في غاية السرور، بالمليارات العشرة. وعندما طلب نتنياهو منها وبصيغة الطلب وليس التمني «تقديم المساعدة العسكرية دفعة واحدة وفي اسرع وقت ممكن كتعويض عن النفقات التي تكبدها الجيش الاسرائيلي في الاستعداد للحرب ضد العراق وفي الحرب على الفلسطينيين» مذكِّراً اياها بأن شارون كان يتوقع ان تكون الهدية العسكرية مليارين وليس ملياراً واحداً، فإن كونداليزا وعدت بدرس الطلب بالإيجاب. ومع ان الاتصال كان مناسبة لتقول كونداليزا لهذا الليكودي نتنياهو ما هذا الذي فعلتموه بالصبيَّة الأميركة راشيل كيري واي جريمة شنعاء ارتكبتموها فإنها اقفلت السماعة لتتابع الاهوال التي ستُلحقها «قادسية بوش» بالأم العربية المظلومة متمثلة بالأم العراقية. اعان الله أمنا هذه، ورحمته تعالى على الصبية الأميركية النبيلة.