ثمة استعادة للمشهد الأخير

TT

بعد ان تأكد للدكتور جوبلز ـ وزير الاعلام في حكومة هتلر ـ ان اللحظات الحاسمة، قد اقتربت وان برلين محاصرة من كل الاتجاهات، اتصل بزوجته طالبا منها القدوم الى مقر عمله، وان تصطحب معها الاطفال.. وبعد فترة وجيزة، دخلت (ماجدا)، وبناتها الى حصن داخل الارض، لا صلة له بالعالم الخارجي الا عن طريق مئات الاجهزة اللاسلكية والحاسبات فائقة الدقة، التي احتفظ العلماء الالمان بأسرارها، ولم تكتشف الا بعد سقوط الرايخ..!!

وقد فوجئ جوبلز بوجود والدته مع زوجته واطفاله.. بعد ان قبلها، قال لها:

«أنت في حل يا أمي من البقاء معنا..!!»

لكن الأم تستبد بها العاطفة المشبوبة، فترد عليه:

«لا.. لا.. لن افارقك يا بول..!!؟ واذا كنت لا تحتمل ان ترى المانيا تحت اقدام الغزاة، وقررت الانتحار، فأنا ايضا لن احتمل ذلك.. ثم.. ثم.. ماذا سأفتقد يا ولدي؟! عاما آخر.. او عامين على اكثر تقدير..؟! لا يا ولدي، لن اغادر برلين.. ولكن بحق السماء، لا تبق البنات معك!!».

فيجيبها:

«نحن على وشك ان نخسر الحرب يا أمي، والحلفاء لن يرحموا احدا من ذريتنا.. سيرسلونهم الى معسكرات الاعتقال، وسيعذبونهم عذابا شديدا.. بل سيقتلونهم ذلاً وعاراً ومهانة، في كل دقيقة..!!».

فتجيب الأم ولدها:

«إذاً.. دعني اغادر هذا المكان شريطة ان اصطحب البنات معي!! والا.. فدعني اشارككم المصير النهائي..!!».

ساعات الوداع!!

لم يجادل جوبلز والدته طويلا، ولكنه امر بدس المخدر لها في الطعام، وحملوها وهي تحت تأثير المخدر الى قرية قصية في غرب برلين، ثم وضعوها في مكان آمن قد أعد لها..

في هذه الاجواء القاتمة والمعبأة برائحة الموت والانتحار، عاش جوبلز لعدة ساعات مع اسرته ورجاله الذين قاموا بحرق جميع الملفات والوثائق ذات الاهمية، ثم قام بتسجيل حديثه اليومي، الذي اعتاد ان يذيعه على الشعب الالماني، فكما كان معروفا عن جوبلز انه عبقري في تطويع الانباء التي تصب في صالح اهداف المانيا.

وما ان انتهى من بث حديثه، حتى قال للرجال الذين يعملون معه: «لعلكم تدركون ان برلين لم تعد مدينة آمنة، وانني بتوجيه من الفوهرر، احرركم من كل ارتباط عسكري، اما انا وعائلتي، فسنتجه الى حيث يعيش الزعيم هتلر، مع اخلص اتباعه في قبو المستشارية..».

لكن الرجال، تداهمهم نوبة من الحماس والعاطفة، ورد عليه البعض منهم:

«اننا لن نفارق هذا المبنى الا جثثا هامدة..!!».

اللقاء الأخير بهتلر!!

وانطلقت سيارتا جوبلز به وبعائلته نحو المستشارية التي شهدت على مدى عشرة اعوام مجد الحزب النازي الذي هيمن على الرايخ الالماني.. وما ان يصل، حتى يتجه على الفور نحو مكتب زعيمه، حيث وجده ثائرا، غاضبا، على اولئك الذين يلحون عليه بالخروج من برلين. وما ان رأى هتلر، وزير اعلامه جوبلز، حتى بادره بالقول:

«انهم يريدونني ان اخرج من برلين يا جوبلز.. يا لها من نصيحة..!!».

لكن جوبلز يفاجئه هو الآخر بالقول:

«اني اضم صوتي الى اصواتهم يا فوهرر..!! فحياتك ثمينة وبقاؤك هنا ليس فيه مصلحة لالمانيا..!!».

لكن هتلر يخبره ان مغادرته لهذا القبو تعني نهاية المانيا!!؟ وبالتالي فإن مصيره سينتهي بين هذه الجدران!!

امام هذا المنطق، لم يملك جوبلز سوى ان يقول لزعيمه:

«إذاً.. ايها القائد العظيم، سيشرفني.. كما يشرف كل مواطن الماني، ان اقرن مصيري ومصير زوجتي واطفالي بمصيرك في هذا القبو..!!».

فيحتضنه هتلر ثم يقول له:

«ارجوك ان تقبل آخر امر اصدره اليك، وهو ان تدع الصغيرات يرحلن الآن، الى مكان آمن، قبل فوات الاوان..!!».

فينتفض جوبلز قائلا:

«يؤسفني يا فوهرر ان تكون هذه اول وآخر مرة، اعصي لك فيها امرا..!».

حصار برلين!!

كان القبو الخرساني الواقع تحت حديقة المستشارية، يحتوي على 12 غرفة، في الطابق الاول منه، والطوابق السفلى كان يشغلها الفوهرر واركان حربه.

وعندما صار الموقف العسكري بالغ الحرج، وسقوط برلين بات وشيكا تحت ضغط هجوم الجيش الروسي، قال جودول لزعيمه:

«انت تعرف انني مقاتل مطيع.. اتمنى ان تعطيني قيادة الفرق في الجبهة الشرقية وان تصدر لي اوامر صريحة بالقتال حتى الموت.. واني اعدك، بأن امنع العدو من التسلل الى برلين بحيث تتمكن من الخروج من المانيا كلها بمنتهى الطمأنينة..».

يبدو ان اقتراح جودول قد لقي قبولا من الجميع، ما عدا هتلر، الذي ظهرت عليه ملامح الانزعاج فصاح فيهم:

«ما هذا ايها السادة؟! هل افقدتكم الهزيمة عقولكم؟! اين شجاعة المقاتل الجرماني.. لتعلموا جميعا انني لن اغادر هذا المكان مهما حدث، الا جثة هامدة، ولا اريد احدا ان يحدثني في هذا الامر منكم بعد الآن..!!».

عرس الدم!!

وحاولت اشهر طيارة المانية وهي (حنا ريتشي)، اقناع هتلر بمغادرة برلين، على طائرتها قائلة:

«اقسم لك يا فوهرر، انه في استطاعتي ان اخترق الدفاعات الجوية كلها بطائرتي، حتى اوصلك الى سواحل شمال افريقيا، حيث تنتظرك هناك احدى الغواصات، التي ستنقلك الى الارجنتين..».

لكن هتلر يصر على رفض الفكرة، ويرفض البحث فيها، بعد ان بات على يقين، انه لا بد من مواجهة الهزيمة.

صفق هتلر بيديه، كأنما يريدهم جميعا ان ينتبهوا اليه، كي يلقي عليهم كلمته الاخيرة.

ولما تركزت الانظار شاخصة نحوه، قال لهم:

«من يريد ان يغادر القبو، فليفعل ذلك قبل فوات الاوان!! وليس معنى ذلك انكم تفرون من مواجهة الهزيمة، وانما تفعلون ذلك من اجل فائدة الشعب الالماني، وهو يعيش معاناة محنة الهزيمة.. اما انا فقد قررت الانتحار.. وارجو الا يحاول احدكم ان يثنيني عن عزمي.. فلا يداخلكم ادنى شك ان العدو يمني نفسه بالقبض علينا، وتلويثنا جسدا وروحا بكل الوان المذلة والمهانة.. وليس لدي ما اقوله سوى انني اريد اتلاف جثتي، واتلاف جثة ايفا براون، بحيث يغدو من المستحيل التعرف على الجثتين.. واني اكلفك يا جوبلز بأمر آخر، وارجو الا تعصاه، وهو ان تشرف بنفسك على حرق الجثتين، حرقا نهائيا.. واني ادعوكم الى عقد قراني الليلة على خطيبتي، الآنسة ايفا براون.. وسنتبادل كلمات الوداع بعد عقد القران.. وشكرا لكم على كل ما قدمتموه من اخلاص لحزبكم، ولأمتكم العظيمة..».

النهاية المحتومة!!

وبعد ان عقد هتلر قرانه على ايفا براون، بدأ الحفل بتبادل الانخاب، وانفرد جوبلز بمكتبه، ليكتب ورقة تم العثور عليها، حينما اقتحم الروس النفق الهتلري.. ومما جاء في تلك الورقة:

«.. لقد امرني الفوهرر ان اغادر واسرتي برلين، واني لأول مرة في حياتي، ارفض طاعة امر اصدره لي صديقي، وزعيمي القائد هتلر.. ولقد ايدني في هذا الرفض كل من زوجتي وبناتي.. ولو فعلت غير ذلك لكنت جبانا رعديدا خائنا، لا يعرف الوفاء للرجل العظيم.. ولذا سأبقى الى جانب الفوهرر، ثم نتبعه انا وعائلتي الى العالم الآخر!!».

وعندما حانت الساعة المتفق عليها، وهي الثانية عشرة ظهراً، دخل هتلر الى غرفته، حيث كانت ايفا براون قد سبقته اليها، وما هي الا لحظات، حتى سمع كل من كان في القبو، صوت الرصاصة القاتلة.. ولما دخلوا للغرفة، كان هتلر ممددا على الارض، فالرصاصة المدمرة التي اطلقها في حلقه، افقدته الحياة فورا.

اما ايفا براون، فقد استخدمت للخروج من بوابة الحياة، قرصا صغيرا، من اقراص (سيانور البوتاسيوم).

وبينما كانت القنابل تتساقط على برلين، تم تنفيذ وصية الفوهرر هتلر بحرق جثته، وجثة ايفا براون، في حديقة المستشارية ولكي يتأكد جوبلز من انتحار زوجته ماجدا، وصغيراته، طلب الى الطبيب ان يقوم بحقن الصغيرات الواحدة بعد الاخرى بحقن لا تعرضهن الى آلام الموت.. وانتحرت زوجته بنفس اسلوب ايفا براون.

لما تأكد جوبلز من كل ذلك، اطلق الرصاص في حلقه، فتناثرت جمجمة رأسه.. وكانت الرصاصة الاخيرة، التي اعلن بعدها عن استسلام برلين، فأوقف القتال، وانتهت النازية من سجل تاريخ المانيا لتبدأ مرحلة جديدة من حياة الشعب الالماني، بعيدا عن الحروب.. والقيادات الديكتاتورية.. ليعم فيها الرخاء والطمأنينة والحرية.

* * *

ما ورد آنفا، مجرد مقالة من تاريخ المانيا، فرضت نفسها لكي تأخذ طريقها للنشر في مثل هذه الايام.. اما لماذا جاء الموضوع على هذا السياق، فربما ان اللاشعور لديّ هو الذي جعلها في مقدمة افكاري.. ولكنني لست مسؤولا عن كيفية اسقاطها من القراء؟!!