أفكار تحت القصف

TT

قصف بغداد لم يقع على العراقيين وحدهم، فكل عربي وأنى كان مكانه كان يحس وقع الصواريخ والقنابل فوق رأسه، وكان ينتظر مع البغداديين ان تقع المعجزة ولا يقع القصف ولكنه وقع، فليس هذا زمن المعجزات.

قبل القصف بساعات وبعد المرور على جميع المواقع والصحف والفضائيات ذهبت في محاولة لمحاربة ذلك الشعور بالعجز للاستماع في المركز الثقافي الفرنسي بالعاصمة البريطانية للمستشرق الفرنسي «جيلز كيبيل» الذي يعرفنا جيدا، ويتعاطف ضمنا مع بعض قضايانا، وكان قد جاء للحديث عن كتابه الجديد «بزوغ قمر رديء». وليس بين الاقمار في العالم رديئة وجميلة فكلها اقمار رومانسية الا في الشرق الاوسط حيث يتشوه كل شيء، ويكتب علينا ان ندفع ثمن اخطاء تشرشل وهتلر وبوش وستالين ولا نبرئ انفسنا، فالرداءة الحقيقية ممن يظنون انفسهم اقمارا في اوطاننا، ولو نظروا في اقرب مرآة لما وجدوا غير خراتيت وسعادين وفيلة غبية.

ولم يكن هناك وقت للحديث عن بزوغ القمر الرديء، فكل من حضروا والاجانب بينهم اكثر من العرب كانوا يحترقون بأسئلة ينقط منها الغيظ وعدم الاستيعاب ومن ذا الذي يستوعب ما يجري بأعصاب هادئة..؟

ومن حسن حظ تلك الامسية المتوترة ان المستشرق كيبيل خفيف الظل، ويطعم اجوبته على الاسئلة النارية ببعض النكات التي يسمعها اثناء ترحاله الدائم في المنطقة، فعند السؤال عن «الكاريزما» المفقودة للقيادات السياسية، حكى عن سيدة فرنسية ذهبت الى المرافق في مطار القاهرة وارادت دخول دورات مياه الرجال فلما منعها الحارس واشار الى مكان النساء سألته: هل يختبئ بن لادن هنا..؟ فلما أكد لها انه لا يختبئ واقسم قالت له: اذن دعني ادخل فهو الرجل الوحيد في الشرق الاوسط.

ويعتقد كيبيل ان صاموئيل هنتنجتون محبوب جدا عند الاصوليين، فهو يسهل لهم الحياة، ولا يدفعهم كثيرا للتفكير بالبدائل ويقدم لهم كل التبريرات اللازمة لتطرفهم بحديثه عن صراع الحضارات في حين ان الصراع الحقيقي كما قال ضاحكا بين اميركا وفرنسا.

وعن اختلاط اوراق الارهاب بالمعادين للعولمة زاد المستشرق الفرنسي بالطنبور نغما، وعاد لابن لادن ليروي هذه المرة قصة حقيقية، فالارهابية الايطالية عضو الالوية الحمراء اليسارية قالت حين تم القبض عليها قبل عدة اشهر في روما ان الناطق الرسمي باسمنا «الالوية» هو بن لادن، وحين يختلط اقصى اليمين بأقصى اليسار وتشارك المبرقعات في المظاهرات التروتسكية تدرك ان كل المصطلحات السياسية والفكرية بحاجة الى تغيير، فالضربة العسكرية سبقتها ضربة فكرية مزلزلة خلطت ما لا يجوز اختلاطه وقربت كل ما كان مستبعدا وعصيا على التواؤم في عالم غير ملائم ولا متوائم.

وحين سئل جيلز كيبيل هل يمكن ان يزول البعث في العراق، ويظل في سورية كان رأيه ان تلك امكانية واردة، فالسوريون يتعاملون بسخاء مع الاميركيين في حقل معلومات الارهاب، ويظلون على تشنجهم الايديولوجي اقرب الى تفكير البنتاغون من القبائل السعودية التي سيحملونها الى الابد اوزار سبتمبر.

ان العراق ـ كما قال المستشرق الفرنسي ـ هو بالنسبة للاميركيين ثروة مجمدة قد يستخدمونها لتحريك الشرق الاوسط الراكد، كالمستنقعات منذ 12 عاما. لكن لصالح من هذا التحريك..؟ لم يجب كيبيل، وليس من الضروري ان يجيب، فلا يقف عند البديهيات غير المغفلين والسذج وبلهاء الفكر السياسي.

الصورة الحقيقية للعالم العربي لخصتها جماهير الشباب التي كانت محتشدة بانتظار شيراك بالجزائر، وهي تصرخ «فيزا.. فيزا.. فيزا» فالجيل الجديد الذي يرى الحياة الناعمة عن بعد عبر الفضائيات يحس انه في قفص، وحين تصبح الاوطان اقفاصا يكسرها السجناء قبل ان يفكروا في الدفاع عنها.

الافكار في تلك الامسية التي كانت قصفا فكريا مركزا كثيرة وعميقة ومثيرة للجدل والضحك الذي هو من طينة شر البلية لكن من عنده النفس والوقت والقابلية ليجادل ويضحك وهو يدري ان الافكار كلام في الرؤوس والهواء اما الحقيقي والصلب فهو تلك القنابل والصواريخ التي تنزل على رؤوس الناس في العراق لتذكر العرب بعجزهم عن مساعدة اخوانهم، وبأن مطلع القرن الحالي كان بالنسبة لهم كمطلع القرن الماضي قوى خارجية تتحارب فوق اراضيهم وتتقاسم ثرواتهم وترسم لهم مستقبلهم وفق مصالحها وعلى مزاجها وهم يحوقلون ويبسملون ويتعوذون ويتفرجون ويقاومون الغزو المنكر بسلاح اضعف الايمان مع علمهم ان في ترساناتهم ما هو امضى واقوى، لكن تلك الاسلحة لا يحركها التخاذل والتواكل وقد ظلت معطلة على الدوام لانها افتقرت الى الدرتين الغائبتين الارادة... والشجاعة.