حقاً.. أين هم؟

TT

كلما قرعت النكبة باب الأمة او نوافذها (المغلقة بإحكام دون الضوء والنور) تردد في الصحف والمجلات سؤال صارخ: اين هم المثقفون العرب؟ وكما في المسرحيات الهزلية، يطرح السؤال بطريقة توحي وكأن كل ما يحدث من آلام وبؤس وقهر وفقر وتدهور في مستويات المعيشة والفكر والعلم، هو مسؤولية طبقة واحدة من الناس هي المثقفون، فأين هم المثقفون حقا؟ اشهر مثقف عربي موجود في نيويورك لأن كتبه ممنوعة في ديار السلطة الفلسطينية! ويدعى ادوارد سعيد. والاكثرية الساحقة من مثقفي العراق واساتذته الجامعيين اما تعمل في ديار الآخرين او تعيش من مساعدات دول الملاذ. وجميع مثقفي الدول العربية في عموم العالم العربي يعرفون ان حدود حياتهم هي الصبر. وللصبر حدود فقط في اغاني ام كلثوم وتشكيات الوله. اما صبرهم فلا حد له الا المنفى او المنسى او السجن، او الالغاء، او التشريد، او العقاب العازل من الوجود.

أين هم المثقفون العرب؟ في ارشيفات الدوائر الحكومية، يكتبون الخطب البالية وينسخون الافكار البالية ويعودون انفسهم حب الجهل وحياة الظلمة ورفض السؤال والقبول طوعا بكل ما يهطل عليهم. ان لهم مهنة واحدة ورسالة واحدة ووسيلة واحدة، هي ان يزوروا حياتهم ووجدانهم وطاقاتهم من اجل اولئك الذين يقودونهم كالقطعان الطائعة الى الاحلام القاتلة والمغامرات الضحلة والمؤسسات التي تدرب البشر على تقبل الفقر وتمجيد العوز وترديد الاناشيد التي تهلل لرجل واحد وكائن واحد ومخلوق واحد، يعطي نفسه شيئا من صفات الخالق.

اين هم المثقفون العرب؟

قرأت العنوان امس في احدى صحف الخليج. الكون يحترق وصاحب المقال يتساءل، اين هم المثقفون العرب؟ لماذا لا تتساءل يا عزيزي اين هم العسكريون العرب؟ اين هم اولئك الذين نقّلوا الشعب العربي من دبابة الى دبابة ومن انقلاب الى انقلاب ومن سجن الى سجن ومن صمت الى صمت ومن عذاب الى تعذيب، فاستولوا على حريته باسم القومية وسطوا على فكره باسم الوطنية ودمروا هناءه باسم الخلاص والانقاذ.

يقول الرائع «ادونيس»: «صارت شهوة السلطة في الحياة العربية خبزا يوميا للجميع. لكل فرد. دون استثناء. خلافة او متابعة لتلك اللغة التي أسست للحياة العربية منذ بداياتها. لغة التفرد والاقصاء. لغة الحجب للانسان، لكل ما هو انساني. من ليس متسلطا، من ليس جزءا من السلطة، يكاد ألا يكون موجودا. هكذا علمتنا هذه الحياة. مرحلة ـ غابة وحشية بلا حدود كل يتقدم في هذه الغابة باحثا عن طريدة. ان لم يقدر ان يقتل طائرا قتل شجرة. ان لم يقدر ان يأكل عدوه اكل صديقه او جاره. الاساسي هو ان يقتل ويأكل».

لقد وصلنا الى هنا ونحن نغني ونردد الاغاني الحماسية. لقد ألغيت الحريات والكرامات والحقوق ونحن نصفق في مواكب الذين ألغوا كل شيء وأبادوا التاريخ واحرقوا الآمال والمستقبل واستعبدوا المثقفين ومنعوهم من العطاء والتفكير والحلم والتنوير والتساؤل.

ليس اين هم المثقفون العرب، بل من هم المثقفون العرب، وهل هناك حقا مثقفون وعرب، ام هناك فقط مدانون ومكفّرون ومبعدون وملغيون، ممنوعون من الكلام والعيش ولا يحصلون على خط هاتفي الا باذن من صاحب البلد الذي يملك كل شيء ويتملك جميع الناس ويحتكر جميع الافكار وتقام له كل النصب وترفع له وحده جميع الصور وتخرج اليه وحده جميع الشرفات والساحات.

اين هم المثقفون العرب؟

انهم يا عزيزي في المواكب التي تساق الى الخراب وهي تغني. وفي الجنازات التي تئد الحرية بلا اكفان. وفي الاقبية التي تؤهل للعقول لتمجيد ثقافة العتم والخنوع والانتفاع من الضرر اللاحق بالآخرين. ومن الالغاء اللاحق بالآخرين. ومن الاستعباد اللاحق بالجميع.