التحالف العربي!

TT

صبيحة اليوم الاول من العدوان على العراق، كتب دنيس روس، مدير مؤسسة واشنطن لسياسة الشرق الادنى، يقول: «بينما يبقى قادة اوروبيون كثر محجمين عن دعم حرب على العراق فقد بدأ قادة عرب منذ عدة اسابيع بالتأقلم مع الواقع الجديد. لقد توقفوا عن محاولة منع الحرب، بل وبدأوا يرسلون اشارات انهم لا يريدون ان يكونوا مع الجانب المعادي للولايات المتحدة في المنطقة». ويضيف روس: «فكر على سبيل المثال بالاعلام المصري الذي ما زال يؤكد ان صدام هو المسؤول عن النزاع الحالي! وفي زيارته الى برلين اكد الرئيس حسني مبارك لمضيفيه أن الوقت قد حان لانهاء النزاع وتغيير صدام» والمقال طويل يعدد مآثر بعض الانظمة العربية التي فتحت ارضها وسماءها ومياهها للقوات البريطانية والاميركية في الوقت الذي امتنعت فيه ايران، والتي عانت من حرب مع العراق اكثر مما عاناه اي بلد عربي آخر، ومع ذلك امتنعت ايران عن فتح اجوائها وامتنعت بلجيكا وألمانيا وتركيا عن السماح للقوات الاميركية باستخدام اراضيها لشن حرب غير عادلة وغير مبررة على العراق رغم مليارات الدولارات التي قدمت لهذه البلدان ورغم الضغوط والاغراءات والتهديد والوعيد.

في لحظة الحسم اذاً وفي اللحظة الصعبة خذل بعض القادة العرب بلدا عربيا شقيقا بينما دعمته وساندته دول جارة واوروبية وغربية لا تربطها تلك الروابط بالشعب العراقي او بتاريخه او لغته او حضارته. لماذا كل ذلك الحديث اذاً عن التضامن العربي ولماذا كل تلك الاجتماعات والقرارات والبيانات الختامية ولماذا كل تلك الادعاءات بالحرص على العرب والعروبة؟ لقد سقطت جميع الاقنعة، والحقيقة التاريخية المؤلمة التي نعيشها اليوم هي ان هذا العدوان على شعب وارض وسماء وثروات العراق لم يكن ممكنا على الاطلاق لو ان الدول العربية منعت منح تسهيلات للغزاة المعتدين كما طلب السيد الرئيس بشار الاسد منهم ان يفعلوا في قمة شرم الشيخ، والحقيقة هي ان هذه الدول العربية تتحمل مسؤولية هذا العدوان تماما كما تتحمله الولايات المتحدة وبريطانيا. لقد ملّت الشعوب العربية استخدام الاستعارة والتورية والعبارات الانشائية التي لا تعني شيئا وحان لنا جميعا ان نضع النقاط على الحروف وان نسمي الاشياء بمسمياتها لأن الشعوب تدرك جيدا ما يجري على ارض الواقع وتفهم المعادلة كما هي وتسمع وترى وتقرأ ولا طائل بعد اليوم من محاولة تضليلها خاصة ان هذه الشعوب هي التي تدفع الثمن من دمها واسرتها واولادها للمواقف المتخاذلة لقادتها وللأداء المتردي والمهين لهؤلاء على مختلف الصعد. لم يعد اليوم كل الناطقين بالعربية عربا فما هي قيمة اخوة تفتح الباب على مصراعيه لجعل تسديد السهام لقلب شعب عربي ممكنا والى متى سوف يواجه الشعب العربي في فلسطين في الامس وفي العراق اليوم آلات عسكرية عاتية ويتحمل مسؤولية الدفاع عن الارض والكرامة والحقوق بعد ان استهان به قادته واختزلوه وقوّضوا مكانته واحترامه بين الامم؟

هل يمكن لعربي ان يتساءل اليوم لماذا لا يحترمنا العالم ولماذا لا يمتلك العرب اليوم كلمة مؤثرة على الساحة الدولية؟ ذلك لأن معظمهم لا يحترمون شعوبهم ولا يصدقون هذه الشعوب القول وفي الوقت الذي يظنون انهم يخدعون شعوبهم فهم لا يخدعون الا انفسهم لأن شعوبهم تدرك تماما ما يجري كما ان الذين يصدرون الاوامر لهم يفقدون احترامهم ايضا لهم فالدول المتحضرة اليوم لا تحترم الا من هو صادق مع شعبه حتى وان اختلف معه وفي كل هذا تناقض صارخ مع اساسيات مبادئنا وحياتنا بل وديننا الاسلامي السمح، اولم يقل الله عز وجل في كتابه الكريم للمسلمين: «يا ايها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون».

كنت في نيويورك حين بدأت الضربات الاولى على بغداد العزيزة وحين قتلت نساء وجرح اطفال وكنت اراقب الاخبار الفضائية ورأيت المراسلين لجميع المحطات الاميركية مجندين بطريقة لا تقل عن تجنيد القوات المحاربة، فالجميع منتعشون يتحدثون عن ذكاء الاسلحة وتفرّد الولايات المتحدة عن العالم برمته بالحروب الليلية نتيجة التقدم العلمي لها ويستبيحون رمال وعواصم وآفاق بلاد عربية قدمت لهم كل شيء بلا مقابل سوى «زرقة اعينهم» والشعور بالنقص تجاه المحتل الاجنبي فبدت لي ساحة المعركة ومكان انطلاق القوات والاسلحة من بلدان عربية عديدة وكأنها مساحة لعبة أتاري يوجهها من اخترعها في ارض خلت من شعوب او ارادة او كلمة حاسمة في زمن صعب، اوليس هؤلاء القادة انفسهم الذين امتدحهم دنيس روس هم انفسهم الذين حولوا شعوبهم الى ارقام لا قيمة ولا كرامة لها في نظر الآخرين، ولكن وفي حلكة هذه اللحظة لا شك ان الشعب العربي برمته مقبل على مرحلة صعبة ومفتوحة على جميع الاحتمالات، ولكن الشيء الاكيد هو ان الصمت عن الخطأ مهما كان صغيرا لم يعد مقبولا لأن هذا الصمت هو الذي قاد الجميع الى هذه الهاوية والشيء الاكيد ايضا هو ان الصدق مع الذات والآخر لم يعد ترفا بل ضرورة لا بد منها من ضرورات العمل والنجاح. والشيء الاكيد ايضا هو ان الامر قد حان للتخلص من هذه القدرية التي خيّمت اخيرا على هذه الامة والتي ساهم الاعلام العربي للأسف بتعزيزها ونشرها، فها هي شعوب الارض جميعا تقف مع ذاتها وتتجرأ على رفع اصواتها ضد كل ما لا توافق عليه حتى وإن كان مدعوما بأعتى قوة في الارض، لا شك ان البداية سوف تكون وقفة مع الذات والعودة الى مبادئ اساسية في الحياة ومن اهمها التحلّي بالصدق والجرأة.

* مديرة الاعلام الخارجي في وزارة الخارجية السورية