الفتوى السياسية.. هل تجعل معارضة الحرب كارثة؟

TT

في هذا الظرف العصيب الذي تمر به المنطقة بسبب تداعيات الحرب على العراق، يجد المراقب نفسه في حالة ذهول مما يجري حوله من تحركات وتغيرات على الصعيد السياسي والاجتماعي، وإذا كانت الولايات المتحدة قد جعلت المنطقة فوق بركان من النار، فإن بعض الجماعات والحركات الآيديولوجية في الوطن العربي قد وجدت في معارضة الحرب وسيلة لفرض آرائها وخياراتها السياسية والآيديولوجية. وأحسب أن من شاهد سيل الفتاوى السياسية التي تحرم الحرب على العراق وتلك التي تكفر مؤيديها قد أصيب بالحيرة من الاندفاع المحموم وراء معارضة الحرب.

لقد شهد العالم تظاهرات مدنية في أرجاء العالم ـ وحتى في الولايات المتحدة ذاتها ـ مناوئة للحرب، وعبر كثير من السياسيين عن معارضتهم الصريحة للحرب، ابتداء من الموقف الألماني ـ الفرنسي وانتهاء باستقالة عدد من الوزراء في حكومة رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، وأولئك الذين ذهبوا من أرجاء العالم إلى بغداد ليكونوا دروعاً بشرية في مستشفيات ومدارس العراقيين، جسدوا موقفاً حضارياً وإنسانياً في طلب السلم ودفع الحرب، ولكن في المقابل وفي عالمنا العربي بالتحديد عكست لنا الفتاوى السياسية التي نتحدث عنها ظاهرة خطيرة تتطلب الحرب قبل وقوعها، وتترفع عن المعارضة السلمية لها. وكأني بهؤلاء وقد أرادوا دفع مجتمعاتنا إلى أتون الحرب غير مبالين بالنتائج المرتقبة فقط لأنهم معادون للولايات المتحدة أو أن لديهم آمالاً بمدن فاضلة يحكمونها في آخر الزمان بعد معركتهم الكونية.

الأزهر الشريف بدل أن يكون عوناً للمجتمعات الإسلامية في مثل هذه الظروف، وإذ بعدد من شيوخه يخرجون علينا بفتوى تدعو إلى «الجهاد» ضد أميركا متجاوزين بذلك كل المفاهيم السياسية التي تضمن الأمن الاجتماعي كـ «الدولة، والمواطنة»، ومثل هذه الدعوى «الجهادية» صدرت عن أحد مشايخ التيسير وهو الشيخ يوسف القرضاوي. وقد أعلن القرضاوي «الجهاد» في خطبة الجمعة بمسجد عمر بن الخطاب بالدوحة مع أن قاعدة العديد الأمريكية هي على مرمى حجر منه. ومسلسل الفتاوى السياسية لا يقتصر عند هذا الحد، ففي الكويت التي عانت من ويلات الغزو العراقي اصدرت الحركة السلفية بياناً مماثلاً لا تحرم فيه الحرب فقط بل وتكفر كل من تسول له نفسه تأييدها. أما السعودية التي أعلنت معارضتها للحرب فقد وجدت فيها الفتاوى المشابهة طريقها، رغم عدم وجود المبرر الواضح لاستخدام الفتوى في التحليل والتحريم بإزاء قضية سياسية شائكة. ومن بين هذه الفتاوى فتوى صدرت عن موقع «الإسلام اليوم» وموقعة باسم الشيخ سلمان العودة، تتضمن السؤال التالي: (نحن جنود في إحدى الدول الخليجية وقد طلب إلينا التوجه إلى الكويت للمرابطة أثناء الحرب المحتملة على العراق دون تحديد لطبيعة المشاركة، فهل يجوز المشاركة في هذه المهمة؟)، وتجيب الفتوى: (لا يجوز لفرد ولا جماعة ولا دولة أن يساعدوا في ضرب العراق وتدميره وقتل شعبه، لا بقول ولا فعل ولا دلالة ولا إشارة ولا تموين ولا دعم). حين قرأت الفتوى أصبت بالذهول وتعجبت. إن طلائع القوات السعودية ذهبت قبل أسبوعين للمساهمة في حماية الجارة الكويت في هذا الوقت العصيب. والفتوى رغم صياغتها المعممة، إلا ان أحداً لا يمكن أن تخطئ عينه المقصود بالفتوى. دعونا نكون أكثر صراحة، هذه الفتوى السياسية تحرم على الجنود السعوديين الذهاب لحماية أراضينا أو على الأقل تمس شرعية ما يقومون به من واجب تجاه وطنهم.

نحن نعلم أن الولايات المتحدة عازمة على ضرب العراق، وأن النظام العراقي حينها لن يتورع عن مهاجمة جيرانه (وهو ما حدث بالفعل بضرب الكويت في أول ساعات الحرب)، فلماذا تصر الفتوى على التعبير بالعموميات وتجاهل الحقائق القائمة على الأرض؟، ان مصدر الفتوى هذه كان قد اصدر فتوى مماثلة إبان حرب الخليج عام 1991، وكلنا نعرف أي نتيجة كنا سنشهدها لو تم الأخذ بتلك الفتوى. ومن اللافت للنظر أن هذه الفتوى استخدمت مفهوم «الولاء والبراء» كمبرر للتحريم. العجيب في الأمر ان سلاح «الولاء والبراء»، الذي يستخدمه الشيخ في فتواه هو ذات السلاح الذي استخدم ضد الشيخ حين نشر في وقت سابق «بيان المثقفين» في موقعه ذاته. وكان من بين نتائج هذه الفتاوى التي تدعو إلى الجهاد أن تقاطر المئات من القوميين والإسلاميين على معسكرات التدريب العراقية في مشهد يثير الحيرة من وقوف هؤلاء مع النظام البعثي العراقي في حرب مقدسة ضد المغول الجدد على حد تعبير صدام.

الذي يصدر الفتوى السياسية كأنما يجبر الناس على وضع رؤيته السياسية موضع الدين عبر تدليله عليها من الكتاب والسنة، وبذلك تصبح الآراء السياسية للشيخ والعالم أمراً شرعياً تحرم مخالفته، إن التفريق بين «اجتهاد الرأي» و«الاجتهاد الشرعي»، غائب كلياً عن مناخ هذه الفتاوى. ان الفتوى السياسية التي استخدمت كسلاح في معارضة الحرب على العراق تقودنا إلى إشكالية حاضرة ومتجددة بين «الديني» و«السياسي» في فكرنا العربي. هذه الفتاوى لم تكشف هذه الإشكالية ـ فهي موجودة معنا دائماً ـ بقدر ما وضعتنا في موقف مواجهة معها، والذين لا يميزون الفتوى السياسية لهم عذرهم، انها تعاود الظهور اليوم بصور مختلفة، إذ لم تعد السلطة وحدها من يملك حق استخدامها. اليوم تتنافس الجماعات الجهادية والرموز الحركية إلى اتخاذ الفتوى السياسية مطية لتحقيق مواقفها السياسية وغزواتها الجهادية. وما فتاوى التكفير الموجهة ضد الحكومات الإسلامية، ومجتمعاتها إلا أمثلة بسيطة على الأثر السلبي الذي قد توجده الفتوى السياسية. والذين لا يستخدمون الفتوى السياسية للتكفير ليسوا أقل حظاً من غيرهم، إذ يبقى الضرر الذي تسببه الفتوى السياسية كبيراً. فهي أولا: تحول الاختلاف في الرأي السياسي إلى اختلاف عقدي يقود بالضرورة إلى الفرقة الدينية التي تهدد استقرار المجتمع. الفتوى المذكورة تخوّن الذين يرغبون إسقاط النظام العراقي وتصفهم بعمالة الاستعمار وتتوعدهم بالخزي الدنيوي والأخروي. طبعاً هذا الوصف يشمل ضحايا النظام العراقي من المعارضين الذين يرغبون في إسقاطه.

ومما تسببه الفتوى السياسية من ضرر ذلك الاضطراب وتلك الحيرة التي تصيب الكثير من الناس كانعكاس لاشتباه السياسة بالموقف العقائدي للناس خلال فترة الأزمات السياسية، وعندها يلجأ قطاع كبير من الناس صوب «العدمية السياسية» المتمثلة بالإغراق في أخبار آخر الزمان، والفتن والملاحم، والركون إلى الدعة والتسليم بالأمر الواقع انتظاراً للمهدي المخلص. وأسوأ ما قد تنتجه مثل هذه الحالة هو التوجه صوب العنف والدموية باسم الجهاد وما يتبع ذلك من عداء وتكفير.

إن رفض الحرب على العراق ليس المشكلة، فللجميع، حتى مصدرو هذه الفتاوى، الحق في رفض ومعارضة الحرب، ولكن ليس من المشروع أن يحيل بعضنا آراءه في القضايا السياسية الى دين يتعبد لله به. وإذا لم نكن حذرين فإن الاندفاع في جعل هذه الحرب حرباً دينية، وتأجيج مجتمعاتنا بالكراهية والغضب تجاه قضايا لم يكن المستعمر سببها الوحيد بقدر ما كانت نابعة من خطئنا وتأخرنا، سيقودنا بالضرورة إلى مستقبل مأزوم. وهناك بوادر ضارة قد عادت للظهور من جديد في أثواب التكفير والجهاد.

* كاتب سعودي

[email protected]