«التراجيديا» الإيرانية.. والكوميديا العراقية

TT

بعدما نجح الانجليز مبكرا في اختراق ثورة «المشروطة» أو الحركة الدستورية الايرانية التحررية في العام 1907، اي بعد نحو عام من اندلاعها، استطاعوا الوصول الى عقل سيد ضياء الدين طباطبائي، ومثله قائد فرقة القوزاق رضا خان (وهما من ابناء النخبتين المدنية والعسكرية البعيدة كل البعد عن آمال الشعب الايراني المطالب بالثورة وتغيير نظام الحكم الفاجاري المستبد والفاسد) فوجئ الايرانيون بانقلاب عسكري يتحرك في جنح ظلام ليل شباط 1921 تدعمه انجلترا بقيادة رضا خان الذي عملت بريطانيا على رعايته ليصبح قائدا لفرقة القوزاق (التي تركتها القيادة الروسية وهي ترحل من شمال البلاد في اعقاب ثورة اكتوبر الاشتراكية المعروفة) ومن ثم ليصبح رضا خان هذا وزيرا للحرب وقائدا للجيش فيما عين سيد ضياء الدين رئيسا للوزراء.

وقد تم كل ذلك وكرس في اطار اتفاقية استعمارية مشبوهة ظلت سرا من الاسرار العجيبة التي يقال ان احدا لم يحصل على نسختها الاصلية بعد حتى اليوم!!

ومن المعروف ان رضا خان هذا هو الذي اصبح فيما بعد شاه ايران الجديد مبتدئاً العهد البهلوي الذي دام حكمه حتى عام 1979، حيث سقط ابنه محمد رضا في ثورة شعبية عارمة.

لقد كانت حقبة مثيرة في تاريخ ايران السياسي المعاصر وكفاح شعبها ضد الاستعمار والاستبداد والظلم لا تزال تدرس في الجامعات الايرانية ويتم مناقشتها في دوائر النخب الايرانية وتداولها بصورة مثيرة للجدل وتتنوع الآراء بشأنها بين موال ومعارض لهذا الزعيم أو ذاك من قادة ورموز الانتفاضة الدستورية وبين من يقيم دور العسكر ورموز الطبقة السياسية التي كانت بالمرصاد لقنص السلطة المركزية بالتعاون مع الاجنبي فيعطيها دورا مشبوها أو وطنيا!

لكن القدر المتيقن والمتفق عليه من التقييم هو ان الثورة الشعبية سرعان ما قمعت بقوة الحديد والنار وكل الآمال «الجمهورية» قد تحطمت على صخرة تحالف عسكر النظام البائد مع وجوه الطبقة السياسية اللبرالية المتعاونة مع الاجنبي.

ومن وثائق تلك الحقبة المثيرة للجدل وثائق محاكمة احد قادة الثورة الدستورية المثير للجدل على يد رفاقه! أو زملائه بعدما اختلفوا معه أو اختلف معهم وبدأ يوجه النقد اللاذع لهم بعدما شعر سواء كان على خطأ أو على صواب واكتشف مبكرا ذلك الاختراق الشهير للحركة الدستورية من جانب الانجليز وانفصل عنهم مما دفع بهم الى اجراء محاكمة ميدانية له دامت اقل من ساعة وحكموا عليه بالاعدام ونفذوا الحكم فورا! وذلك الرجل هو آية الله شيخ فضل الله نوري المعروف.

وهنا مقاطع مختارة من تلك المحاكمة المثيرة: «الشيخ ابراهيم زنجاني: بسم الله قاصم الجبارين نبدأ المحكمة بقراءة قرار التجريم الذي يضم الاتهامات الموجهة للشيخ.. عندما وافق المرحوم مظفر شاه وبعده محمد علي ميرزا المخلوع على مطلب الشعب... وكان لسماحتكم وبعض العلماء المعروفين دور كبير في اقرار الدستور.. فما الذي حصل وجعلك تشق عصا الامة؟.. وبما انك متهم اليوم باثارة الاضطرابات وقتل بعض الاشخاص بأوامر شخصية منك ومعارضة المشروطة فانت محكوم بالاعدام.

احد الحاضرين: قبل تنفيذ الحكم يمكنك ان تدافع عن نفسك.

شيخ فضل الله: بسم الله الرحمن الرحيم.. قبل ان ادافع عن نفسي بينوا لي ما فعلتم بمحمد علي ميرزا (الشاه المخلوع)؟!

احدهم: هذا الامر لا يتعلق بك!

شيخ فضل الله: لقد كان محمد علي ميرزا شاها ورأسا للاستبداد لكنكم اعطيتموه الامان ليخرج من ايران وتغاضيتم عن كل جرائم القتل والتهم التي ارتكبها وقررتم ارسال مائة الف تومان له شهريا.. اليس هذا ما كنا نقوله منذ البداية من ان المشروطة التي تصنع في السفارة البريطانية لن تكون نتيجتها غير هذا!!

احدهم: دافع عن نفسك!

شيخ فضل الله: يصلنا الدور، وماذا فعلتم بعين الدولة (الصدر الاعظم أو رئيس الوزراء) بسبب مساعدته على الظلم والقتل؟ سمعت انكم عفوتم عنه ايضا وانتم تعلمون من الذي قتل اهالي تبريز ومن الذي حمل اهالي قوجان على بيع بناتهم!

احدهم: لا علاقة لك بما فعلنا بالآخرين!

شيخ فضل الله: لا بأس ان تعطوه حقيبة وزارية فمثله جدير بها! ثم ماذا فعلتم بليخانوف؟ لم اكن انا الذي قصف المجلس بالمدافع (القائد الروسي الذي قصف البرلمان بأمر من جماعة الانقلاب العسكري) ولست انا الذي قتل اهالي طهران. ماذا فعلتم به؟ لقد سمعت انه جاء الى السردار أسعد (فاتح طهران) وألقى امامه سيفه على الارض علامة الاستسلام وان السردار اسعد قلده سيفه مرة ثانية. ماذا تسمون ذلك؟!

احدهم: لقد كان يؤدي واجبه العسكري!

شيخ فضل الله: اذن فالجرم الوحيد هو تأدية الواجب الاسلامي؟!

كان ذلك مقاطع من المحاكمة الشهيرة لأحد اقطاب النهضة المذكورة.

ومهما اتفقنا أو اختلفنا مع القاضي أو المتهم الآنفي الذكر وتقييمنا لتلك الحقبة المثيرة للجدل حقاً ولكن المهمة جداً في التاريخ الايراني المعاصر، الا ان ثمة من يرى شبها أو تشابها بين ما حصل آنذاك وما يمكن ان يحصل أو ينتظر قادة النهضة والمعارضة العراقية الوطنية والاسلامية منها في الفترة المقبلة اذا ما نجح الغزو الاجنبي للعراق وحقق اهدافه المرجوة منه على الرغم من اختلاف الحيثيات والظروف والاحوال والسياقات.

فالحرب الآن تعم العراق من اقصاه الى اقصاه وغبار المعركة سيرشح منه تبدلات كثيرة في غاية الاثارة والجدل وسيكون من اولى نتائجها بالقطع واليقين ظهور رموز ووجوه واسماء وبدلات عسكرية ومدنية مثيرة للجدل جداً وقد لا تخطر على بال أحد من رجالات الثورة العراقية ورموز معارضتها والتي قد تأتي بقضاتها ورجال دينها! الخاصين بها ليحاكموا الكثيرين ممن تصوروا يوما انهم سيسلمون السلطة مجانا لأنهم تفادوا الصدام بالاجنبي، وليس فقط أولئك الذين قاوموا نفوذ الاجنبي واختراقاته لهيكلية وانظمة الثورة والثوار!

ثمة من قال وأظنه هيغل بأن التاريخ يعيد نفسه، وثمة من علق واظنه ماركس والله أعلم بأن الواقعة التاريخية الأولى اذا ما كانت تراجيديا فإن تكرارها غالبا ما يكون كوميدياً!