لغة الحروب

TT

للحروب لغة خاصة يحاول الخبراء من خلال قراءتها ان يعرفوا ما لدى الفريق الآخر من ردود فعل. وبالاضافة الى قراءة التعابير وتحليلها والبحث فيها عن المؤشرات، يصار ايضاً الى قراءة التعابير المرسومة على الوجوه او في الحناجر. وعندما استقدم الرئيس العراقي كلمات مثل «الجريمة» بدل العدوان و«العائلة فدا العراق» سارع محلل وكالة الانباء الالمانية الى القول، ان ذلك يشير الى ان احد افراد العائلة قد اصيب أو قتل.

ولفت النظر في الايام الاخيرة ظهور وزير الاعلام العراقي محمد الصحاف وحده في واجهة الصورة المرسلة الى العالم بعد غياب طويل عن الواجهة. فقد نقل الصحاف من الخارجية الى الاعلام في خطوة اعتبرت آنذاك خفضاً من مكانته في الحكومة. وتوزع الاحاديث الرسمية الى الاعلام الخارجي، المتحدث العراقي الاكثر شهرة، طارق عزيز، ونائب الرئيس طه ياسين رمضان. الاول بلغته المعهودة التي تقول الاشياء الحادة بتعابير غير حادة والثاني بلغته المعروفة التي تقول الاشياء الحادة بأسلوب اكثر حدة. لكن ما ان اندلعت الحرب حتى غاب الجميع وحصر التحدث الى العالم بوزير الاعلام محمد الصحاف الذي احتل الصورة العراقية وحده، بعدما اعتمر القبعة العسكرية الكحلية والبزة العسكرية التي لم يخلعها رجال الحكومة منذ حرب الكويت. او ربما منذ حرب ايران. فقد اعتاد المشاهد حول العالم ان يرى صورة يومية في التلفزيون العراقي، هي صورة الرئيس بالثياب المدنية محاطاً بالوزراء في الزي القتالي. غير ان الامر تغير بعد الشرارة الاولى، اذ ارتدى هو ايضاً البزة العسكرية وظهر للمرة الاولى بنظارتين طبيتين تقللان من حرصه المشهور على صورة الرجل الدائم الأناقة الخالي من علامات التقدم في السن.

من الصعب قراءة اي «تحليل» او «مؤشرات» في خطاب محمد الصحاف او في ملامحه. فقد خرج الرجل غاضباً الى الناس وعلى وجهه معالمه الشديدة الحدة ومعه قاموس الغاضبين. فالأعداء والخصوم «اوغاد» و«جحوش» ونعوت اخرى. ولا وقت لاختيار الكلمات والمفردات. فالحرب هي الحرب. والمترجم الرسمي الفوري يجد صعوبة واضحة في النقل الدقيق، بحيث يحافظ على روحية ما يريد الصحاف قوله للآخرين. انها الحرب. وليس ثمة وقت للعناية بالالفاظ. ولا رغبة في تهذيبها. «انهم دولة كبرى من الاوغاد». «دولة آل كابون الكبرى». ومعروف ان الايطالي آل كابون هو اشهر اسم في تاريخ المافيا الاميركية. واما جورج بوش فهو «زعيم عصابة اجرامية من...».

علينا ان نتخيل اي نوع من حرب الاعصاب تشتعل في بغداد اليوم: قاذفات تقلع من بريطانيا وهدفها المعلن «قتل الرئيس وولديه». وصواريخ تطلق من البحر الاحمر وهدفها اسقاط النظام. ومعارضة تزحف مع البريطانيين والاميركيين لكي تكون هناك جاهزة لدى سقوطه. انهم «الخونة» او «المرتزقة المجتمعون في الكويت» بلغة الوزير الصحاف. او اصحاب «الخيانة» التي تحدث عنها الرئيس العراقي نفسه في تلميح الى ان الطائرات الاميركية قد اعطيت اشارات من الارض الى مكان الرجل «المتعدد الأشباه» و«المتعدد الارواح مثل هرة محظوظة». فالحرب الماضية لم تستطع الوصول اليه في الخنادق او القطارات التي يستقلها او الاحياء الشعبية التي يدخل اليها ويضيع فيها. وتروى عن طاقات الرجل على التخفي روايات كثيرة بعضها اقرب الى الخيال، لكنه قابل للتصديق. وانها الحرب في اي حال. وهي الحرب الاخيرة في العراق بالنسبة الى فرقاء كثيرين. ولذلك قد تكون حرباً طويلة. وقد تكون حرباً شديدة الفظاعة. وقد تكون حرباً طاحنة ومختصرة، اذا رأت اميركا ان اطالتها سوف تجعل النصر النفسي اكبر من الحجم العسكري.