في أوروبا .. تحقق الانتصار الأميركي الأكبر

TT

بينما تعرض آلة الحرب الاميركية الهائلة عضلاتها على العراق، حققت الولايات المتحدة انتصارها السياسي الأكبر بعيداً جداً عن الاراضي العراقية. فقد انتصرت واشنطن في اوروبا على فكرة اوروبا المتحررة سياسياً وفكرياً والمستقلة مصلحياً عنها. وفي ساحة اوروبا لعبت بريطانيا دور «البطولة» المختلف تماماً عن دور «الكومبارس» الذي تلعبه في العراق اليوم.

فواشنطن كانت بحاجة الى دعم رئيس الحكومة البريطاني مرتين فقط خلال الأشهر الماضية، وفي كلتا المرتين أثبت بلير انه موضع الثقة والصديق الصدوق. المرة الأولى في الخريف الماضي قبل الانتخابات النصفية الاميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) عندما كان الديمقراطيون ما يزالون يسيطرون بفارق صوت واحد على مجلس الشيوخ، وكان عند قادتهم بعض الشجاعة للتصدي للرئيس جورج و. بوش وتحدي مشروع حربه اللا محدودة ضد «الإرهاب» ودول «محور الشر». يومذاك كان بوش يطمح بإقناع الرأي العام الاميركي بأنه لا يخوض حربه وحيداً بل لديه دعم دولي، في حين كان الليبراليون الديمقراطيون يرجون بصمت، وجبن أيضاً، ان تنأى قيادات العالم عن «سيد» البيت الابيض بصورة تشجعهم على حث الرأي العام على العصيان. وفي اللحظة المناسبة أطل بلير على واشنطن مطمئناً بوش الى وقوفه معه «جنباً الى جنب». وهكذا... انفرجت أسارير «صقور الحرب»، وانخذل دعاة السلام وشلت قوة الدفع السلمية. وبالنتيجة، استعاد الجمهوريون اغلبيتهم في مجلس الشيوخ، واعتبر بوش انتصاره هذا ـ وله كل الحق ـ تزكية شعبية قوية تنفض الشك عن شرعية رئاسته المكسوبة بصوت انتخابي وحيد في ولاية عطلت حكومتها التي يرأسها شقيقه إعادة فرز اصواتها، رغم خسارته التصويت الشعبي.

دعم بلير لبوش في تلك الفترة العصيبة كان أثمن هدية يمكن ان تقدمها حكومة لأخرى، ولا بد ان كثيرين يرون ان على بوش حفظ هذا الجميل للزعيم البريطاني لفترة طويلة قادمة.

وتسارع قرع طبول الحرب الاميركية بعد الانتخابات النصفية، بفضل تفويضها الكبير، الا ان بوش ارتبك مؤقتاً ـ كما قيل في حينه ـ عندما لاحظ انقساماً داخل فريق عمله بين تيار يوصف بـ«المعتدل» يمثله وزير الخارجية كولن باول، وتيار متشدد يمثله نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائبه بول وولفويتز ومستشارة شؤون الامن القومي كوندوليزا رايس.

فباول ارتأى الاستقواء بشرعية الأمم المتحدة والحصول على مباركتها لخوض الحرب ضد العراق... كمحطة اولى طبعاً، في حين لم يجد تيار المتشددين اي حاجة للياقة من هذا النوع المهذب مع مجتمع دولي مستسلم وعاجز. وفي نهاية المطاف، ايد بوش خيار باول، من منطلق انه حتى وان لم يعط فائدة فهو لن يضرّ ولن يحرم الآلة العسكرية الاميركية من التحرك حيث وحين تشاء. كذلك ثمة في لندن من يقول ان بلير نفسه لعب دوراً في إقناع الرئيس الاميركي بسلوك درب الأمم المتحدة لتحاشي إحراج «الديمقراطيات» الاوروبية (؟) امام شعوبها. وهكذا كان.

ولكن شيئاً فشيئاً اتضحت غايات «صقور» واشنطن امام دول العالم، ولا سيما الدول الاوروبية. فالمسألة تجاوزت نزع اسلحة الدمار الشامل من نظام غير مرغوب فيه، وتحوّلت الى تغيير ذلك النظام وانظمة اخرى غيره، ونشر «الديمقراطية» ـ وفق التعريف الاميركي ـ على امتداد الشرق الاوسط، وخوض حرب مفتوحة ضد عدو «إرهابي» غامض قد تستمر من خمسين الى مئة سنة!!

وإزاء التصريحات الاستعلائية البعيدة عن الدبلوماسية من كبار اركان الادارة الاميركية حتى خلال اللقاءات الاطلسية، فرطت الحبة الأولى من السّبحة، عندما اعلن المستشار الالماني غيرهارد شرودر وقوف بلاده ضد اي حرب في الشرق الاوسط ورفضها المشاركة فيها. وبفضل هذا الموقف القاطع، كما نذكر، تمكن شرودر من انتزاع النصر من بين فكيّ الهزيمة المحدقة به قبل الانتخابات.

ثم مع بدء مؤشرات التعاون العراقي مع المفتشين الدوليين، في أعقاب تفاهم حسن النية الدولي المتجسد في القرار 1441، تشجعت كل من فرنسا وروسيا والصين، بل واغلبية الدول الاعضاء في مجلس الامن ايضاً، على اعتبار آلية التفتيش الحل المنشود للأزمة العراقية، التي تعمّد «صقور» واشنطن سحبها من درج الماضي وربطها من دون اي مسوغ او برهان مع الحملة ضد «الإرهاب».

عند هذه النقطة، قرّرت واشنطن ان دور مجلس الامن صار دوراً معطلاً لمشروعها الحربي لا مسهّلاً له. وبالفعل وفق هذا القرار انصاع باول لوجهة نظر «الصقور»، وجعل من مداخلته امام مجلس الامن تهديداً مباشراً بتجاهله ما لم «يبصم على بياض». وهكذا ولّد التعنت الاميركي هلعاً متزايداً عند الفرنسيين والصينيين والروس والالمان، اساسه إدراك حقيقة ان الهدف الابعد لهجمة الولايات المتحدة هو هم انفسهم. فواشنطن تريد عملياً التحكم بنفط العالم، وإلغاء اي قوة قد تسوّل لها نفسها في يوم من الايام ان تتحدى الهيمنة الاميركية على البشرية جمعاء.

وجاءت بعد ذلك «القشة التي قصمت ظهر البعير» الاوروبي مع ما عرف بـ«رسالة الثمانية» ومعها وبها أسدى توني بلير خدمته الثانية الثمينة لجورج بوش... ايضاً في توقيت ممتاز.

تلك الرسالة كانت في الواقع «انقلاباً اميركياً» على نواة الوحدة الأوروبية وضميرها نفذته دول اوروبية قياداتها عديمة الايمان بأوروبا موحّدة وسيّدة على قرارها. وفي تلك الرسالة ابلغت واشنطن الألمان والفرنسيين والبلجيك الذين قادوا عملية توحيد القارة «العجوز» ـ وفق تعبير دونالد رامسفيلد ـ بصريح العبارة انهم صاروا «أقلية» في عائلتهم، وصارت الغلبة للطارئين من الحديثي العضوية... والمرشحين للعضوية.

وكما اختارت واشنطن استفراد فرنسا وحدها بتهمة «نسف» صدقية الامم المتحدة لرفض الفرنسيين تحويل المنظمة الى مطيّة سهلة لـ«صقور» واشنطن ـ رغم الموقف المماثل من الروس والصينيين والالمان ودول عدة أخرى ـ قادت لندن مدعومة بتحريض صحافتها اليمينية المتطرفة كـ«التايمز» و«الصن» و«الديلي تلغراف» عملية «استفراد» فرنسا اوروبياً، واستنهاض أقبح الحساسيات العنصرية ضدها في الشارع البريطاني.

ثم ذهب بلير ونفر من وزرائه أبعد في خطة التحريض والتخوين واللعن، فأثاروا ما زعموه «ابتزاز» فرنسا بـ«الفيتو» داخل مجلس العموم، وفي تصريحاتهم الرسمية. وانطلت هذه المزاعم على كثيرين نسوا ان من اصل الاعضاء الخمسة الدائمي العضوية في مجلس الامن كانت هناك أكثرية ثلاث دول (فرنسا وروسيا والصين) ضد اثنتين هما الولايات المتحدة وبريطانيا.

ولا شك ان الغضب الانجلو ـ اميركي لم يكن موجهاً الى فرنسا لمجرد تلويحها بـ«الفيتو». فهذا الحق متاح للاعضاء الخمسة الدائمي العضوية. وفرنسا، بالمناسبة، أقل استخداماً لهذا الحق من بعض الخمسة، وحتماً من الولايات المتحدة. انه وجّه لها بالذات، وبحقد وشراسة فظيعين، لأنها اعلنت صراحة «استعدادها لتحمل مسؤولية الفيتو لانقاذ الاعضاء الآخرين من دول آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية من اسلوب التهديد والوعيد المهدّدين به». وقد أنقذ هذا الموقف الفرنسي النبيل الذي اعرب عنه وزير الخارجية دومينيك دو فيلبان، دولاً افريقية «فرانكوفونية» مسكينة كغينيا والكاميرون من إحراج السقوط بين السندان الفرنسي والمطرقة الاميركية، وحال دون ممارسة واشنطن ضغطها على هذه الدول ودول أخرى كتشيلي وانغولا وباكستان والمكسيك. ومن ثم حرم واشنطن ولندن مما كانتا ستصورانه للعالم على انه «نصر معنوي» في ما لو أجبرت تلك الدول على الرضوخ للضغط.

في ظل انحدار العلاقة الى هذا المستوى، يتضح ان مفهوم اوروبا كما حلم به الرّواد المؤسسون تلاشى. وصارت المبادرة داخل القارة بأيدي «احصنة طروادة» الاميركية، وعلى رأسهم بريطانيا التي كانت وما زالت اقل المتحمسين لقيام «اوروبا موحّدة» بدليل رفضها توقيع «معاهدة شينغن» واعتماد «اليورو» وفكرة تأسيس الجيش الاوروبي.