الحرب تدشن انهيار المؤسسات العالمية والعربية

TT

حين تبدأ الحرب يتوقف التحليل. التحليل هو فعل العقل اما الآلة العسكرية فلا عقل لها. كيف ستمضي المعركة؟ كيف سيقاوم العراق؟ ماذا سيكون حجم التدمير الاميركي داخل العراق؟ كلها اسئلة كبيرة لا يمكن الاجابة عليها الا بعد مراقبة ما سيجري، ولا تعود للتحليل مكانته الا على ضوء ما سينجلي عنه غبار المعارك.

ولكن هناك ظاهرة سابقة بارزة تعطي ايماءات لبعض التطورات المقبلة، يمكن التوقف عندها باعتبارها نوعا من علامات الاشارات على الطرق، وتبدأ هذه الظواهر على مستوى العالم، ثم تتدرج اقليميا وعربيا وعراقيا.

نلحظ اول ما نلحظ ان ثلاث مؤسسات كبرى اصابها التصدع، وقد يخفت دورها او يتلاشى، فاتحة المجال امام حالة من الفوضى، الى ان تتم صياغة مؤسسات جديدة بديلة.

المؤسسة الاولى التي تصدعت وهي معرضة للانهيار، هي مؤسسة مجلس الامن ويكفي ان يكون الانسان قد راقب جلسة مجلس الامن الاخيرة على شاشات التلفزيون، كي يعرف ان هذه المؤسسة لم يعد لها دور. تكلم الجميع على طريقة تسجيل المواقف، بينما كان المعني الرئيسي بتلك المواقف غائبا عن الجلسة يخطط لحرب يرفضها المتكلمون. وحتى الامين العام للامم المتحدة كوفي عنان بدا عاجزا ومحبطا ومليئا بالاحساس بأن المنظمة التي يرأسها قد بدأت تنهار، وربما يكون هو آخر أمين عام لها.

المؤسسة الثانية التي تصدعت او هي معرضة للانهيار، هي مؤسسة حلف الاطلسي، فاستخدام الفيتو من قبل ثلاث دول اوروبية شل المؤسسة ووضعها في موضع عاجز عن اتخاذ القرار الجماعي، فتم اللجوء الى القرارات الفردية.

المؤسسة الثالثة التي اهتزت اركانها هي مؤسسة الوحدة الاوروبية، فقد عملت الولايات المتحدة بتحرك بريطاني نشط على تقسيم اوروبا (بيان الدول الثماني)، وبدا واضحا ان نفوذ اميركا في اوساط دول اوروبا الشرقية التي دخلت السوق الاوروبية حديثا، مكنها من ايجاد شرخ في المؤسسة الاوروبية ستكون له نتائج بارزة على ضوء نتائج الحرب في العراق، فالدول الغربية المعارضة للنهج الامبراطوري الاميركي الجديد ستحاول ان تتكتل (داخل السوق الاوروبية)، وربما تعيد النظر في منهج توسيع الاتحاد الاوروبي لصد النفوذ الاميركي بداخله، وقد يترتب على ذلك تبعات مالية كبيرة تتولى المانيا الآن تقديمها الى دول اوروبا الشرقية، والسؤال اذا كانت الولايات المتحدة ستتولى من جهتها تقديم هذه المعونات، فستتحمل تبعات مالية جديدة اضافة الى التبعات المالية للحرب (90 مليار دولار).

وبهذا تكون اكبر ثلاث مؤسسات تؤثر في الوضع العالمي سياسيا واقتصاديا، معرضة للانهيار، او لاعادة التكوين بطريقة جديدة لا علاقة لها بتجربة الماضي وتقاليده.

ومن الامور اللافتة للنظر هنا، المواقف التي صدرت عن قمة جزر الخالدات الرباعية، حين تحدث كل من أثنار (اسبانيا) وبلير (بريطانيا) وبوش (الولايات المتحدة) عن اهمية مؤسسة حلف الاطلسي، وضرورة الابقاء عليها حية، في تركيز يشي بوضوح عن تصدعها، وعن ادراك خطورة انقسام أميركي ـ اوروبي، ينهي التحالف الاستراتيجي المديد الذي نشأ منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

اما على الصعيد العربي، وبشكل متواز مع التطورات العالمية، فإن منظمة الجامعة العربية، قد تصدعت او هي على وشك الانهيار. وبالرغم من المحاولات الكثيفة التي بذلت فإن الحرب كشفت عن تصدع بنيتها، فهناك دول ضالعة في الحرب الاميركية ضد العراق، وهناك دول ترفض الانخراط فيها، وحين ينجلي غبار المعارك فإن كل المواقف المستقبلية ستكون محكومة بالمواقف الراهنة للدول. الدول المساندة للحرب ستؤيد الخطط الاميركية لما بعد الحرب، والدول الرافضة للحرب ستعارض نتائجها، وربما تقاومها، ولذلك فإن محاولة الابقاء على اللحمة العربية داخل الجامعة قد تكون مهمة صعبة، وربما مستحيلة، وسيترتب على ذلك البحث عن مؤسسة جديدة، يتحالف بداخلها المتحالفون، وربما يسفر الامر عن جامعتين عربيتين، وسيكون لمثل هذا الانهيار اذا حصل نتائجه المباشرة على الصعيد الشعبي، اذ هناك حالة غليان عربية ترفض التبعية لاميركا، واذا اجتهدت انظمة في اختيار طريق يخالف ذلك فإن التوتر سيتحول الى توتر شعبي ضد الانظمة نفسها.

ومن المؤشرات الاخرى لوجهة المستقبل، المواقف المتعلقة بحكم العراق. لقد ركز الاميركيون في حملتهم الاعلامية قبل الحرب على انهم لا يعتزمون احتلال العراق وحكمه (استعمار مقيم)، وانهم سيسلمون الامور بعد فترة قصيرة الى القوى العراقية المستعدة لذلك، وبذل كولن باول وزير الخارجية جهودا اعلامية مكثفة لنفي ان الهدف الاميركي من الحرب هو السيطرة على النفط، وقال ان بلاده ستحفظ النفط لشعب العراق. ولكن ما ان بدأت شرارة الحرب، حتى توجه بوش الى الكونغرس الاميركي طالبا 90 مليار دولار لتغطية النفقات، ثم بادر توني بلير رئيس وزراء بريطانيا الى القول صراحة بأن نفقات الحرب ستتم تغطيتها من ناتج النفط العراقي، وهذا يعني بأبسط الحسابات ان نفط العراق سيرهن لمدة تزيد عن عشرين سنة من اجل استيفاء نفقات الحرب، وحتى يتم ضمان ذلك فإن الحكم العراقي يجب ان يوضع تحت السيطرة الاميركية المباشرة لكي يتمكن من دفع الفاتورة كاملة، وهذا يتناقض مع كل ما ورد في الحملات الاعلامية من ان الحرب ستكون قصيرة، او ان واشنطن لا تنوي البقاء في العراق، او انها لا تطمع في نفطه، او انها ستحقق له الازدهار الاقتصادي فتضع النفط في خدمة مطالب الشعب العراقي ورفاهيته.

ثمة ملاحظات حول الحرب الاعلامية، والتي هي جزء لا يتجزأ من الحرب العسكرية، لقد اختفت المعلومات والحقائق والوقائع منذ اللحظة الاولى لاندلاع الحرب، وما يسمح لنا بمشاهدته هو صورة دبابة اميركية ملتقطة من بعيد، تتحرك في منطقة صحراوية باتجاه العراق. لقد اختفى الجنود والبشر من الصورة، ولم يتم نقل اي صورة عن القتلى الاميركيين والبريطانيين الذين سقطت طائرتهم. اما داخل الساحة الاميركية نفسها فلم يعد هناك مناخ ديمقراطي، وانتهى عهد التباهي بأن كل مواطن اميركي يستطيع التعبير عن رأيه مع الحرب او ضدها، فقام البوليس قبل يومين باعتقال اكثر من الف متظاهر من بين المتظاهرين ضد الحرب. هذا الحدث ربما سيكون بداية لنهج ديمقراطي داخلي جديد، والذين حذروا من عودة (المكارثية) الى اميركا (عبر وزارة الامن التي تم انشاؤها) لديهم الآن شواهد عديدة ان المكارثية عائدة الى الساحة بقوة، وحين تكون اميركا مكارثية فإن حملتها لنشر الديمقراطية في المنطقة العربية تصبح حملة مضحكة.

ولا بد ان نلاحظ في هذا السياق الاعلامي، ان الاعلام العربي منقسم على نفسه، فهناك اعلام اختار ان يطل على الحرب ضد العراق من البوارج الاميركية، واجتهد ان يرى وسط القنابل التي يتم تذخيرها للقتل والتدمير، جنديا مسلما يصلي بحرية، وامرأة تشرف على سلاح نووي، وكأنه يهتف بنا (يا له من جيش)، ولم يتورع هذا النوع من الاعلام ان يرفع شعار (الحرية للعراق) في وصفه للغارات الاولى على بغداد. يقابل هذا الاعلام اعلام اخباري موضوعي، واعلام رافض للحرب، وهذا الانقسام الاعلامي سيكون له شأنه في المستقبل على صعيد الشارع العربي، وعلى تأثيرات الشارع السياسية.

عسكريا.. ثمة الآن احتمالان نظريان: احتمال انتصار اميركي سريع، ولكن تليه مشكلات ومواجهات داخلية حين يبدأ البحث بنوع النظام الجديد في العراق، وهنا ستبرز تفاعلات وطنية بعيدة الغور، مقاومة الاحتلال، نفوذ شيعة العراق، مطالب اكراد العراق. والاحتمال الثاني ان يطول أمد المعركة. وهنا يجب ان نلاحظ تصريحات القادة الاميركيين القائلة بأن الحرب ستكون صعبة، وتصريحات القادة البريطانيين بأن الحرب ستكون طويلة. لقد تم اعلان هذه الاقوال مرة واحدة، ثم سحبت من التداول الاعلامي. لقد تم تسجيل الاحتمال (للتاريخ)، ولكن تم سحبه من التداول لاعتبارات الحرب النفسية.