لا تتركوا رامسفيلد.. ولا تنسوا المخططين!

TT

لا جدال في أن الولايات المتحدة تعجلت الحرب وتورطت فيها، وهي لا تجد سبيلاً غير المضي فيها إلى آخر الشوط مهما كانت الكلفة في العتاد والجنود وسوء السمعة وانعدام الفرصة لدورة رئاسية ثانية لبوش.. ولكن أفضل ما في استمرار الحرب لأبعد مدى، هو الدروس التي يمكن أن تستخلصها الولايات المتحدة من أنها ليس بوسعها أن تشن الحروب مستقبلاً بمثل هذه البساطة، وبهذه الكيفية، التي تتحدى فيها الإرادة الدولية لمجرد أنها الدولة الأقوى عسكرياً في العالم، وانها عن طريق القوة تغير وتبدل في العالم على نحو يحقق ما تطمح فيه من هيمنة وتفرّد.

ولعل من أبرز هذه الدروس وأهمها، احترام الشرعية الدولية، وعدم تجاوزها بهذه الطريقة العنترية، لأن مثل هذا التجاوز لا يقود إلى بناء شرعية جديدة معدلة، أو متفردة، بقدر ما هو مغامرة بانزلاق العالم إلى فوضى وربما فناء!.. ولهذا سارع بلير إلى لقاء بوش في كامب ديفيد لتلافي هذا الانزلاق، محاولاً إضفاء الشرعية على نتائج الحرب في الأمور المتعلقة بالشأن العراقي. ومن ثم جاءت تصريحات باول التي تحدثت عن دور مهم للأمم المتحدة بما يشبه الاعتذار للعالم العربي، إذ قال: «إذا انتهت الحرب بنجاح وانتصار ولاحظ الناس اننا جئنا بحياة أفضل للعراقيين، فإن الموقف سيتحول وسنقوم بدور أكثر حماسة من أجل استئناف مفاوضات السلام الفلسطينية ـ الإسرائيلية وسنسعى إلى ردم الهوة مع أصدقائنا..».

ويبدو أن قرار مجلس الأمن بالإجماع الخاص بالنفط مقابل الغذاء يصب في هذا المنحى، بالرغم من مهاترات نائب الرئيس العراقي طه يس رمضان والشتائم التي كالها له من غير وجه حق وبكلمات بذيئة.

ومن هذه الدروس أيضاً التي نأمل أن تكون الولايات المتحدة قد استوعبتها، هي ان تطوي ما حاولت الترويج له بما أسمته إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط بعد اجتياح العراق، فهذه الخارطة التي لم تفصح عن تفاصيلها، بدت عناوينها الرئيسية مرفوضة تماماً، خاصة ما يتعلق منها بإسرائيل، بدءاً بما تردد عن تسمية حاكم عسكري أمريكي موال لإسرائيل، وصولاً إلى أن تكون واحدة من أولويات الحكم الجديد في العراق الاعتراف بإسرائيل!.

علماً بأنه في المبتدأ، يجب استبعاد فكرة حاكم أمريكي على العراق، ناهيك من أن يكون موالياً للكيان الصهيوني!، لأن تفرد أمريكا بالهيمنة على الشأن العراقي مرفوض، وأن أية وصاية انتقالية يجب أن تكون تحت مظلة الأمم المتحدة وبالتشاور مع العالم العربي.

وصفوة القول إن العالم العربي بأسره والرأي العام بوجه عام، على قناعة بأن المحرض الأول لشن هذه الحرب وبهذه العجلة، هم غلاة التطرف من اليهود الحاكمين في إسرائيل، وفي المقدمة العصابة المنتمية لهم من المستشارين والنافذين في الإدارة الأمريكية، من أمثال وولفتش نائب وزير الدفاع، ورتشارد بيرل كبير المستشارين في البانتجون، الذي استقال مؤخراً من رئاسة المستشارين بسبب فضائح مالية!. ولا ينبغي أن تفلت هذه العصابة من المساءلة والمطاردة، حتى تتكشف كل الحقيقة وينتهي هذا الدور المشبوه المتسلط على السياسة الأمريكية!.

لقد بدأت بعض الصحف الأمريكية بفتح ملف الحرب العراقية وما صاحبها من أخطاء، لكن السطوة اليهودية على الإعلام الأمريكي، تتعالى بالترويج لوجوب الوقوف خلف الرئيس، طالما الحرب لا تزال دائرة وكأنها تستعير النهج العربي برفع شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» حتى تستجمع الأنفاس لإخفاء معالم الخطايا، ولكي تجد مشاجب بعيداً عن اللوبي اليهودي لتعلق فيها ورطة الحرب!. وهكذا بدأنا نسمع انتقادات بما يشبه الحملة على وزير الدفاع الأمريكي رونالد رامسفيلد، بحسبانه الذي دفع بقوة وبسرعة للحرب دون أن يستمع إلى نصائح وآراء جنرالات الجيش، وهي حملة يستحقها ويستحق ما هو أكثر منها، فهو بلا شك ظهر بين أركان الإدارة بأنه الذي لم يسلم من تهجماته حتى البريطانيون الذين انجرّوا وراءهم في الحرب على العراق، عندما قال: «إنهم يمكن أن يذهبوا إليها بدونهم!»، وهو قول أحرج بلير، لكنه عندما قال مثله عن تركيا يبدو أن أمريكا دفعت ثمنه غالياً بعدم فتح جبهة في شمال العراق، مما أضعف من قوة الحملة الأمريكية على العراق وعرقل مسارها.

وعلى الرغم من الحملة التي شنها بعض الجنرالات الأمريكيين وغيرهم على وزير الدفاع، فإنه يلزم الا يكون هو وحده كبش الفداء، وإنما المطلوب هو أن تشكل لجان لتقصي كل الحقائق من مبتدأ فكرة غزو العراق، أي منذ عام 1996، عندما أعد رتشارد بيرل مخططه الشهير بالتنسيق مع نتنياهو، الذي كان وقتها رئيساً لوزراء إسرائيل، وإلى كل مستشار ومسؤول دفع باتجاه الحرب وقلل من خطورتها وزيّن الاستهانة بالشرعية الدولية وبالعالم العربي.

ان التركيز على كشف الدور الرئيسي للصهيونية في الدفع باتجاه هذه الحرب، ينبغي أن يكون عظيماً ومتواصلاً وعلى كل المستويات، حتى يدرك الشعب الأمريكي خطورة هذا التسلط الجهنمي ويلمس انه كان ولم يزل وراء الكراهية المنتشرة في كل أرجاء العالم للسياسة الأمريكية، واعتقد انه من حسن الحظ ان العالم يشاركنا الآن هذه النظرة لأنه لم يكن بعيداً عن هذه الحرب، بل انه شارك بقوة في إدانتها وفي الوقوف ضدها، وبالتالي فهو يرغب في فحص وكشف كل خفاياها، وهو يقارن بصدق وبحق في كيف تشن الحرب على العراق بادعاء انه تجاوز قرارات الأمم المتحدة، بينما إسرائيل تستهين بها عبر نصف قرن من الزمان دون أن تعاقب بما هو دون الحرب؟. ويكفي في هذا السياق، الإشارة إلى استقالة الوزير البريطاني روبن كوك وما صحبها من مقال كتبه عن ازدواجية المعايير في القرارات الدولية، خاصة بالنسبة لإسرائيل. وكذلك التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية البريطاني وعبر فيها عن نفس المعاني التي أشار إليها زميله كوك. وفوق هذا وذاك تبني توني بلير لخطة الطريق وتأكيد كولن باول بأنهم سيسرعون الخطى في العمل على تنفيذها.

لا شك أن هذه الحرب التي أرادت إسرائيل من وراء اشتعالها تصفية القضية الفلسطينية وبسط هيمنتها على العالم العربي، بحسبانها الحليف المميز لأمريكا، بدأت ترتدّ عليها، وعلينا أن لا ندعها تفلت من تبعات ما خططت له وباء بفشل عظيم. لا بد من اعادة ترتيب كل الأوراق التي عملت إلى خلطها وجرّ الولايات المتحدة في بؤرة ذلك الخلط، الذي اضاع من الولايات المتحدة خارطة الحرب على الارهاب التي اصطف كل العالم معها فحرفتها عن مسار تلك الحرب بادعاء ان المقاومة هي إرهاب، وان العرب هم الإرهاب بعينه والإسلام كذلك، حتى كانت نهاية المطاف الحرب على العراق، بل وحتى الحرب على العراق صورتها كبداية لتغيير كل الأنظمة العربية بحسبانها بصورة أو أخرى عدوة لأمريكا!.

إننا لن نكون وحدنا في هذه المعركة التي لن تكون سهلة وإنما سيصطف كل العالم معنا وخاصة أوروبا التي حملت راية الاعتراض على الحرب ليس تعاطفاً مع العراق، لكن رفضاً لمبرراتها وتمسكاً بالشرعية الدولية، وهي ترفع الآن شعار عدم الكيل بمعيارين وليس أمامها إلا القضية الفلسطينية كأنصع مثال على تلك الازدواجية التي تكيل بها أمريكا!. وعلينا ان نستثمر هذه الصحوة الأوروبية ليس في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية، وإنما في إيقاظها من هذه الغيبوبة التي ادخلها فيها اللوبي الصهيوني، لكي تصحح الكثير من الأخطاء التي ارتكبتها بحق الفلسطينيين والعرب أجمعين.

لقد صبر العرب كثيراً على الهوة التي فصلت بين علاقاتهم مع الولايات المتحدة حتى فسّر الصهاينة للأمريكان ذلك الصبر بأنه استكانة وموات، لكن حانت لحظة الحقيقة التي ينبغي على أمريكا أن تدرك فيها كم هي أخطأت بحقهم وأن تعمل على ردم هذه الهوة كما قال كولن باول في أحدث تصريح له عن العلاقات العربية الأمريكية، لأن المصالح الحقيقية لأمريكا مع العرب، وليست مع إسرائيل، بل انهم هم اصدقاء أوفياء للشعب الأمريكي!.