توازن القوى من خلال (الكل على الواحد) هو النظام العالمي القادم

TT

في عام 1648، وبعد ان ترسخ مفهوم الدولة القومية في معاهدة «وستفاليا» ترسخ مفهوم اخر اتكأ عليه النظام العالمي انذاك، وهو مفهوم «توازن القوى»، او كما يسميه الدكتور تركي الحمد: (الكل على الواحد). يتكئ هذا النظام على ضرورة وجود توازن بين القوى الرئيسية في اوروبا، فاذا اختل ميزان هذا التوازن، تحالف الجميع ضد الدولة التي قامت بخرق التوازن، من اجل ارجاع الامر الى مساره الصحيح، اي الى مسار «توازن القوى». ويؤكد المؤرخون ان ارهاصات الاختلال الواضح في ميزان «توازن القوى» بين دول اوربا في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كان بمثابة الباعث الذي اشعل الحرب العالمية الاولى، والتي كان من اهم نتائجها بعد او وضعت هذه الحرب اوزارها، ظهور منظمة دولية جديدة، سميت آنذاك: «عصبة الامم»، وذلك بغرض تنظيم المجتمع الدولي، والحفاظ على الاستقرار العالمي، ونقل العالم من مرحلة الصراع، الى مرحلة التعاون المشترك، وبالتالي فان دعامة استقرار العالم كما كانت تطرحه تلك المنظمة نظريا عند انشائها هو نظام «الامن الجماعي» ممثلا بعصبة الامم، ليكون هذا النظام بديلا لفكرة توازن القوى، والذي كان متمثلا بشكل رئيسي في التحالفات والتكتلات الدولية.

الا ان الواقع العملي اثبت ان عصبة الامم كانت تحمل في داخلها بذور تفككها وانهيارها، فقد كان من الجلي عجز هذه المنظمة الجديدة انذاك على ان تفرض واقع الامن الجماعي على العالم، وبالتالي قامت الحرب العالمية الثانية، والتي كان من اهم نتائجها بعد انتهائها والفظائع الانسانية التي تمخضت عنها، ظهور منظمة عالمية جديدة هي «هيئة الامم المتحدة»، التي كانت تهدف اساسا الى الحفاظ على السلم والامن الدوليين بعيدا عن الحروب. وقد روعي فيها عند انشائها الاستفادة من الاخطاء التي ادت الى انهيار عصبة الامم، واشعلت كنتيجة لهذا الانهيار الحرب العالمية الثانية. وببزوغ هيئة الامم المتحدة اصبحت الشرعية الدولية محكومة بالقرارات التي تصدرها المجالس المختلفة لهذه الهيئة، وكان الضابط الفعلي للمحافظة على استقرار النظام العالمي قبل سقوط حائط برلين يكمن تحديدا في التوازن القطبي بين الولايات المتحدة الامريكية وبين الاتحاد السوفيتي. غير ان سقوط حائط برلين في 9 نوفمبر 1989 وتفكك الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة، ألقت بتبعاتها سلبيا على فعالية وقدرة هيئة الامم، بحيث اصبح ضابط المحافظة على النظام العالمي الذي كان يحكمه التوازن بين القطبين ضابطا هلاميا، الامر الذي جعل العالم يعيش في ظل قوة واحدة مهيمنة، وهذا ما ترفضه طبيعة الصراع بين القوى كما يؤكد لنا التاريخ، فالحالة الطبيعية هي حالة التعادلية، وليست حالة التفرد الاحادي.

وعندما اطلق الرئيس بوش الاب في العام 1991 اعلانه عن النظام العالمي الجديد كان في الواقع يحاول ان يكرس هيمنة «القطب الواحد» التي بدت ظاهرة للعيان، فالعالم منذ بداية التسعينات اصبح يعيش في ظل «احادية» القطب، وبالتالي فضابط الاستقرار العالمي قد اصيب بالتغيير، ومن ثم فمن البديهي ان النظام العالمي بأسره في طريقه للتغيير، وان المنظومة الدولية التي كانت تتكئ في وجودها على ضابط التوازن القطبي، في طريقها هي الاخرى للسقوط نتيجة لسقوط الاسس التي تقوم عليها. ولقد بدت معالم هذا السقوط تتجلى وبقوة في العشر سنوات الاخيرة من القرن العشرين، وعلى ما يبدو فإن الحرب الانجلو ـ امريكية الحالية على العراق كانت بمثابة رصاصة الرحمة لآلية هيئة الامم كما كانت عليه، بعد ان فقدت اهم شروط بقائها بسقوط الاتحاد السوفيتي كقوة معادلة للولايات المتحدة.

وفي تقديري ان الفترة القريبة القادمة ستفرز لنا ظهور الية توازنية جديدة، لتحل بديلا لآلية هيئة الامم المتحدة القديمة، والتي فقدت مبررات استمراريتها بعد انهيار «الضابط» الذي كان يحافظ على بقائها، او على الاقل، فان الفترة القادمة، ستحمل تغيرات عميقة في عمل هيئة الامم، بما يجعل واقع هذه الهيئة مواكبا للواقع العالمي الراهن، والقائم على فكرة «العولمة» بعمودها الاساس، وهو اتساع دائرة الخيارات الاقتصادية من خلال حركة الاستثمارات الدولية والاسواق المفتوحة، في مقابل تضييق دائرة الخيارات السياسية المحلية، واستقلالية القرار الوطني.

ولعل الاقطاب الرئيسة التي ستشكل الهيئة الجديدة، او ستشكل التغييرات في الهيئة الحالية، هي الدول الصناعية السبع الكبرى. ومن المتوقع ان تكون الهيمنة في البداية على هذه الهيئة للولايات المتحدة الامريكية، وذلك بسبب تفوقها المزدوج من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية، الا ان استشراف المستقبل وتحليل واقع ميل ميزان القوى لصالح قوة الاقتصاد على حساب قوة الدبابة، ناهيك عن رفض المزاج العالمي المعاصر لفكرة الهيمنة من خلال تفعيل القوة العسكرية، والذي تجلى بوضوح في الرفض العالمي على المستوى الرسمي والشعبي معا للحرب الامريكية على العراق، كل ذلك في تقديري يبشر بحالة من التوازن، او على الاقل الاقتراب من مرحلة التوازن بعيدا عن الآلة العسكرية. وفي كل الحالات فإن الهدف الرئيسي من النظام العالمي الجديد، سيكون تحقيق مصالح الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات، وتذليل الصعوبات التي تحول دون تحقيقها لمصالحها ومكاسبها.

كما اتوقع ان العالم سيفرز آلية جديدة شبيهة الى حد كبير بما كانت عليه الاوضاع في بدايات القرن العشرين، بحيث تتشكل قوة تعادل القوى الامريكية، او على الاقل تقترب من معادلتها، وقد تكون هذه القوة العملاق الاوروبي الموحد او العملاق الصيني، او هما متحالفين في وجه تسلط وهيمنة وتفرد العملاق الامريكي. وقد لا يتحقق ذلك في السنوات القريبة القادمة، ولكن لا اشك في تشكله في النهاية، فالتعادلية هي الاصل، والتوحد هو الاستثناء، والاستثناء لا يدوم.

* كاتب سعوديٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ