لماذا غاب الإنسان العراقي عن بن بيلا والشيخ؟

TT

هذه الحرب، هي حرب الخيارات الفقيرة تشعر وكأن الشارع العربي يندفع في حالة انتحار جماعي مثل الحيتان الضخمة التي تنجرف بجنون نحو الشاطئ الضحل، لا أحد يعرف الى أين تفضي هذه الرقصات التراجيدية، لا أحد يملك تصورا عن الخطوة التالية.

الامر لم يقتصر على القاعدة بل تنامى الى القمة تأملوا. هذا المشهد بداية ايام الحرب وقف وزير الاعلام العراقي محمد سعيد الصحاف مع الاعلاميين على حطام الموقع الذي قصفته القذائف الامريكية وقال: هذا قصر السلام كان سيستضيف مجموعة من الحكماء الساعين للاصلاح، منهم نلسون منديلا، واحمد بن بيلا. ويوم مارس نشرت احدى الصحف تصريحا لـلحكيم احمد بن بيلا اثناء قيادته مظاهرة مناصرة للعراق في الجزائر قال فيه يجب على صدام ان يموت واقفا بين شعبه. إذن هذا هو صوت الحكمة؟ ليبق صدام رغم كل شيء، ما دام أنه يواجه امريكا ويقاتل.

حكيم آخر ولكن بعباءة المشيخة الدينية هذه المرة قال: لا يجوز الحديث عن مظالم صدام الآن، صحيح انه ينتمي للبعث الكافر وقد حذرنا من هذا النظام من قبل ومحاربته للحركة الاسلامية، ولكن بما ان صدام يخوض الآن نوعا من الجهاد في سبيل الله فلا يجوز الحديث عن بعثيته، وقد فرق الفقهاء بين جهاد الطلب الذي تشترط فيه صحة الراية، وبين جهاد الدفع الذي لا تشترط فيه الراية. ثم لا تنس أن البعث العراقي بدأ يعود الآن الى الاسلام وقد شجع على الحجاب وما إلى ذلك.

ماذا يعني كلام هذا الشيخ باللغة السياسية؟ يعني ان تكفير صدام حسين موضوع على الرف الى حين الانتهاء من معركة الحواسم، ثم يعود العراك الازلي من جديد اذا استدعى الامر، والأهم أنه يعني أن قيمة الانسان العراقي غير حاضرة في خارطة تفكير الحركيين من الاسلاميين. رمز علماني بن بيلا ورمز ديني الشيخ المعروفي يرفضان الحديث عن إزالة صدام حسين، ويعتبران ذلك خيانة، فهل هي حالة من الغيبوبة العقلية والاخلاقية؟

لم يتحدث السيد بين بيلا طيلة تمتع الدكتاتور صدام حسين بتعذيب وسحق العراقيين، عن ان ترك الشعب العراقي للوحش البعثي خيانة كبرى، ولم يتكلم الفقيه الهمام عن سحق المعارضة الشيعية على يد علي الكيماوي في انتفاضة 1991، ناهيك من أنه لم يتحدث عن انتهاك حكومة طالبان لأبسط حقوق الانسان ايام حكمها المجيد، بما انها الشكل الامثل لحكم الشريعة الاسلامية كما زعموا. لماذا غاب الانسان كمفهوم عن فكرنا، وقيمة عن نظامنا الاخلاقي، فلا يتم الانطلاق منه ولا موضعته في مركز الدائرة من جهازنا النظري والتحليلي؟ الفرد يلغى لصالح المجموع والافكار المجردة: الأمة الاسلامية، الوطن العربي، الحزب العظيم، وتحت هذه العناوين الضخمة تغيب ملامح الانسان الفرد، ويلغى الاعتبار به، فلا همّ أن يجوع ويعرى، ولا مشكلة في عذاباته وشقائه، فكل ذلك يقدم قربانا على مذبح الفكرة التي يرعاها الرئيس القائد أو أمير المؤمنين.

لم يتوقف أحد من حراس الفكرة عند هذا التساؤل: لماذا أدافع عن حزب عذبني وشطبني، وقومية بددت جهودي، وأمة موجودة في الاذهان اكثر مما هي متحققة في الاعيان؟ ماذا عن طعامي وشرابي؟ ماذا عن هنائي وطمأنينتي التي تخصني أنا كفرد أسمع وأرى؟ فأنا في النهاية انسان، وجودي سابق على وجود الفكرة، والفكرة متحولة، والانسان ثابت، ولا يوجد هناك عمر آخر يمكن اعادة التجربة فيه اذا اتضحت تعاسة الفكرة، وأن حصادها هو الخائب، فالانسان لا يحيا مرتين.

وبعيدا عن الحديث في التفاصيل السياسية، عن مغازي الحملة الامريكية على العراق، هل هي حملة من اجل حريته ام من اجل نفطه ومقدراته؟ بعيدا عن هذا الجدل المنخفض، لم لا يلفت انتباهنا وصول الانسان العراقي الى حالة نفسية تجعله قابلا بأي شيء آخر، حتى ولو كان أجنبيا غازيا يخلصه من عصر صدام حسين؟ ولا يزيغن بصائرنا عدم انتفاضة السكان لحد الآن مع القوات الغازية بدعوى أنهم هبوا للدفاع عن الوطن واتقدت فيهم الغيرة على الهوية، فهم هم السكان الذي انتفضوا عام 1991 ضد سلطة صدام برعاية القوات الامريكية الغازية وكادوا ان يفعلوها لولا حسابات سياسية متأخرة خذلتهم وتركتهم لمخالب البعث وانياب علي الكيماوي. فأين غابت الوطنية عنهم في تلك الايام؟ ولماذا لم يقاوموا الغزاة تلك الايام؟ وما الذي يجعلهم يقاومونهم عام 1991 دفاعا عن الوطن، ويخونون هذا الوطن عام 1991؟ هل تبخرت وطنيتهم ثم تكثـفت من جديد؟

القصة ليست وطنية اشتعلت على حين غرة، بل خوف عميق موحش في افئدة هؤلاء الناس، جعلهم لا يغامرون مع وجود شك، ولو كان ضئيلا، في إمكانية تكرار سيناريو عام 1991، والذي يحصل الآن هو مزيج من الكره للأمريكان بسبب طعنة الاحباط التي تلقوها منهم في انتفاضتهم الاولى، وخوف من نظام انشأ مليشيات خاصة لبقاء كل فرد عراقي تحت نظر الزعيم المهيب، مليشيات انشئت أصلا من أجل هذا اليوم الذي يمكن أن يفكر فيه الناس بالتمرد على الزعيم، فالنظام هو الآخر أخذ العبرة من انتفاضة السكان الأولى حين أبصروا كوة تسلل منها النور إلى كهوف صدام. انه الخوف الذي يكبل الإنسان ويجعله يدافع عن جلاده.

ودعونا نفترض الصورة التالية: لو وجد العراقي البسيط نفسه في وضع آمن يملك فيه حق الاختيار الحر بين بقاء نظام صدام حسين، وبين طرده وزمرته البعثية وتحويل العراق إلى سلطة مدنية بإشراف الامم المتحدة، لا يملك الزعيم فيه ترف إعدام الآلاف في ساعة واحدة، وهو ينفث السيجار الكوبي الفاخر، فأي شيء سيختار الانسان العراقي؟ يبدو أن هذا الانسان مقصى تماما من المجال الفكري العربي ومن أذهان ووجدان صاغه الوعي العربي من حكماء ومشايخ من طراز بن بيلا او شيخ الكاسيت الاسلامي هذا.

* كاتب سعودي

msharihotmailcom