.. بل أسوأ من إعلام 67

TT

تسابقت التعليقات الناقدة على مقال عنونته بـ«مهلا اعلام 67». وحيرني ان الدفاع عن الاعلام العربي كان اعلى صوتا من الدفاع عن القضية العراقية. ولصعوبة مناقشة الردود جميعها فان النقد الذي اتوقف عنده اكثر هو ذلك الذي كتبه الاستاذ فيصل الشهيل، لنقطة ضعف عندي هي انني تخرجت من مدرسته عندما كان رئيسا لشركة «الجزيرة»، صحيفتي الأولى في الرياض، وهو رجل صاحب مواقف كبيرة في عالم الصحافة. ولا يقلل حصر نقاشي معه من احترامي لكل من تجشم عناء المراسلة او المناقشة، وقد سعيت للرد على معظم ما وردني بالبريد.

والحقيقة انني لا اختلف مع من هب للدفاع عن عرض الاعلام وشرفه لأنه في نظري علة العلل في التفكير العربي. وما نشهده اليوم ليس الا استمرارية لنفس العقلية الاعلامية التي تحاصر الانسان العربي وتسيره على هواها.

الاستاذ فيصل شهد مادحا بأن الاعلام العربي اليوم اكثر اعتدالا وموضوعية، وبدوري اتمادى ناقدا بأنه اسوأ من اعلام 67 لعدم موضوعيته وحياديته. لا اعني بذلك جرعة الاكاذيب لأن اعلام 67 مهما شط وبالغ فانه كان محدود الانتشار، اما اعلام 2003 فلا عقل يحمى منه ولا بيت يخلو منه، مهما بلغ الناس من فقر.

وتبدأ المشكلة من اعلى، فزملائي العرب يريدون فرض موقفهم السياسي من فوق على كل وسائلهم الاعلامية. من خلال الموقف عتمت الوسائل العربية، عامدة، على طروحات المعارضة العراقية رغم انها تمثل جزءا من الشعب العراقي صاحب القضية، وأهم من ذلك عتمت على انباء تخالف مواقفها، مثل اخبار اطلاق قوات الامن العراقية النار على الهاربين من البصرة. واذاعت روايات تشابه في تخاريفها روايات السندباد مثل قصة الفلاح الذي اسقط ببندقية صدئة طائرة «اباتشي»، وبعضها خط بعناوين بارزة ان الحلفاء استخدموا الكيماوي وهو ما لم يقله حتى وزير الاعلام العراقي محمد سعيد الصحاف نفسه. عشرات من القصص دفنت لانها تناقض بغداد او لان مصادرها اميركية، اذاً السؤال هنا كيف لنا ان نعرف الحقيقة اذا كان الاعلامي يضع نفسه رقيبا منحازا؟

وحتى لا يسيء فهمي كل ناقد، فأنا لست اطالب بمنع رواية بغداد، مهما كانت مضحكة او كان كذبها مفضوحا، ولا الاقتصار على بث انباء القيادات الاميركية، مهما كانت صادقة، بل منح الانسان العربي حقه في استقبال النبأ بروايتيه إن وجدتا، حتى لا يقع في مصيدة خبر المصدر الواحد. مصيدة المصدر الواحد هو ما حدث في حرب 67 ويتكرر اليوم. وعندما سئل الاستاذ محمد حسنين هيكل لماذا كانت صحيفته تنشر كل يوم بخط بارز انباء اسقاط عشرات الطائرات الاسرائيلية رغم انها قصص مكذوبة، رد بأن الصحيفة لم تكذب بل تنقل ما وردها من اخبار. هذا تبرير سليم من الناحية المهنية لولا انه نسي ان واجب الصحيفة ان تنقل رواية الجانب الآخر اذا كانت مختلفة، وبكل أسف هي الرواية التي ثبت للجميع انها الصحيحة ومنع القارئ العربي منها.

هذه معركة اعلامية أخرى من معارك 67 حيث يجلس كل محرر بمقصه يقول للناس هذا ما تشاهدون وهذا ما لا يجوز ان تسمعوا عنه لأنه يصور العراقي مؤيدا لواشنطن او يقدم هزيمة للقوات الباسلة او يبدو انه حملة دعائية. ان هناك فارقا بين ان تعمل الوسيلة الاعلامية محطة للتنقية وبين ان تكون محطة للتوزيع، والثانية هي الصحيحة.

وعلى مستوى البث تلفزيونيا فان الحماسة والمبالغة بالتبشير بهزيمة الغزاة وانتصار القوات مماثلتان لبشارة اذاعة صوت العرب عام .67 الفارق، كما ذكرت في البداية، حجم تأثير الاعلام اليوم مقارنة عما كان عليه قبل اربعين عاما مضت. ان رفع المعنويات عمل سياسي لا صحافي، وهذا لا ينفي حق الوسيلة الاعلامية ان تتبنى ما تراه مناسبا «قوميا» و«اخلاقيا» في افتتاحيتها واختياراتها في المقالات، اما في التقارير والاخبار فانها عندما تنحاز تكذب، وهذا ما يحدث بكل أسف. ولو كانت انباء الصحف امضى من انباء المدافع لقبلنا هذا الانحياز في النقل لأنه يحقق نتيجة انما، بكل أسف، يوحي للناس خطأ بنتائج قد تثبت الايام عدم صحتها. وهذا ما يحدث في المجتمعات المتخلفة اعلاميا. وحتى في يوغوسلافيا عندما عمدت وزارة اعلام ميلوشيفتش الى نشر اخبار مؤامرات الغرب والاتراك وانتصارات بلغراد والطائرات التي تتساقط كالذباب وانتهى عميد الصرب في حبس ضيق.

ماذا عن القفزة النوعية في الاعلام العربي، لماذا لا اعترف بها؟ هذا سطر في مقال الاستاذ فيصل. المجال هنا ليس لتقييم القفزات النوعية، الفنية والملونة والالكترونية وسرعة البث. فهذه وللأسف ليست من عبقرية الاعلام العربي بل مستوردة مثل الورق الذي نستورده من السويد والمطابع من المانيا. انها قفزة استيرادية مثلها مثل الملابس والسيارات والساعات اما المعلومات فلا تزال تحبر بنفس الطريقة القديمة التي تغار على المبادئ اكثر مما تحرص على تقديم الحقائق. شاهد معظم ما تبثه المحطات العربية من بغداد، لا «الجزيرة» وحدها، ستجدها لسان حال وزارة الاعلام العراقية. ان احدا لم يجرؤ على ان يتساءل، حتى من قبيل السؤال يوم اذيعت دراما سقوط الطائرة في بغداد وملاحقة الطيارين في مياه دجلة، لم يسأل احد وزارة الاعلام التي جمعتهم وارسلتهم لمشاهدة الدراما اين هي الطائرة التي لا يمكن ان تتبخر بعد ان قيل انها سقطت، او عن المظلتين اللتين قفز بهما الاثنان. لقد كانت محل تندر التلفزة الغربية وبكل اسف ثبت انها قصة مفبركة.

ولا ألوم وزارة الاعلام العراقية على تعمدها الكذب لان هذا جزء من الحرب النفسية التي تمارسها على وسائل الاعلام، وتفعل القيادة الاميركية الشيء نفسه. اذا اردت ان ترى النوعية عليك بمتابعة المؤتمرات الصحافية بين الجانبين، ففي الغربية لا يكتفي الصحافيون بالانصات بل يناقضون ويعارضون ويحققون ويخاصمون في ما يصلهم ويكشفون اكاذيبهم في صحفهم وتلفزيوناتهم. في اعلامنا ما يقوله الصحاف يذاع كما لو كان خطيب مسجد جمعة.

ان مسألة الاصطفاف وراء القيادة العراقية تحت دعوى محاربة الغزاة تحتاج الى تأمل، ألم يكفنا اننا اصطففنا ثماني سنوات باسم حماية البوابة الشرقية في حرب ايران؟ اما كفى بعضنا من اصطفاف وراء محقق الوحدة في اغسطس 90 ومحاربته لتحالف العدوان الدولي؟ وحتى الذين يريدون الاصطفاف رغم هذا كله، وهو حق مشروع لهم، عليهم ان يتركوا فسحة للاخبار الكاملة ويحتكروا إن شاءوا مساحات الرأي.

انها ليست اعجابا بالغرب لكنها حماية من الانجراف وراء هذه الظواهر المستمرة التي تقود عقولنا منذ محاربة الغزاة السوفيات في افغانستان وحتى اليوم. ان الخلاف على الاسلوب لا على الموقف السياسي، مع ان الخاتمة تناقض المقدمة في مقدمة استاذي التي تعلن ان مآل الديكتاتورية العراقية الزوال، والحسم سيكون لصالح طائرات الـ«بي 52». فهذه الخاتمة لا تتناسب مع ما يطرح في اعلامنا العربي ابدا.