الحرب: محاولة لفهم ألغاز المتاهة الميدانية

TT

في الذاكرة منذ أيام الصبا، قصة أظنها لتولستوي أو دستويفسكي، عن ذلك الفلاح الروسي الذي مُنح فرصة امتلاك الأرض التي تطويها قدماه. راح الرجل يركض ويركض إلى أن سقط مغشياً عليه على الأرض الشاسعة التي باتت ملكاً له.

ما أشبه القوات الأميركية بذلك الفلاح الروسي! فقد ركضت هذه القوات وركضت مئات الكيلومترات، ثم إذا بها تتوقف لاهثة منهكة حيث وصلت، لا هي ألقت الحصار على بغداد، ولا هي أحكمت السيطرة على الأرض التي طوتها وراءها.

في حياتي الصحافية الطويلة، شاركت في التغطية الميدانية لحروب واشتباكات دامية. وما زلت أحتفظ بذكريات أليمة عن المواجهات الكثيرة بين القوات السورية والإسرائيلية في الجولان والجليل الأعلى خلال الخمسينات.

بعض الذكريات تتخللها مواقف محرجة بل وحتى مضحكة. كنا فريقا من الصحافيين في موقع أمامي على ضفة بحيرة طبريا عندما انطلقت قذائف مدفعية من الجانب الإسرائيلي نحونا. كان الموقع محصنا، لكن زميلي الظريف عبد الله الشيتي رحمه الله، غادره في هلعه الزائد مندفعا على غير هدى نحو المواقع الإسرائيلية. وكان يرتدي معطفا عسكريا روسيا لا أدري من أين أتى به. وغادر ضابط الموقع المخبأ مغامرا بحياته لإقناع «المارشال الروسي» بالانسحاب والعودة.

وأعترف بأن المصادفة المحضة، لا الرغبة الشجاعة، جعلتني أغطي حرب الصحراء المغربية وحربي 67 و73. وأذكر اني كنت في إجازة مرتين عائدا من بيروت لأقضيهما بين الأهل والصحاب في دمشق، فإذا بي أجد نفسي في عداد الصحافيين في جبهتي الجولان وحوران. لكن ذكريات الحرب اللبنانية التي حضرت عاميها الأولين هي الأشد إيلاما. فالمتقاتلون غير النظاميين يرتكبون، عادة، في الحروب الأهلية فظائع ومجازر يندى لها الجبين والضمير خجلا وقرفا.

أذكر كل ذلك لأقول إن الحضور الميداني يوفر للصحافي الرؤية عن كثب والتعامل عن قرب مع الخطر والمعاناة. لكن حربا، كالحرب العراقية الراهنة، مغطاة إعلاميا وإخباريا على مدار الساعة، توفر من المعلومات المتناقضة ما يكفي للمراقب والمتابع بدقة، تشكيل تصور واقعي للوضع الميداني، إذا كان حريصا أن لا تغلب العاطفة الحقيقة على الأرض. ولعل المرء يدهش عندما يعرف أن ليدل هارت أكبر استراتيجيّي الحروب في القرن العشرين، لم يشهد في حياته قط معارك ميدانية.

وتسهيلا على القارئ وتبسيطا للمتاهة الميدانية، أقول إن القوات الغازية اندفعت، حسب الخطة المرسومة، على ثلاثة محاور متوجهة من الجنوب إلى الشمال والهدف بغداد. المحور الأول تحركت عليه في الشرق القوات البريطانية لتشق طريقها وسط الكثافة السكانية بين نهري دجلة والفرات. المحور الثاني استهدف المدن الاستراتيجية على الفرات، فيما شق المحور الثالث البطن الصحراوي اللين. وعملت القوات الأميركية المؤلفة من مدرعات ومشاة ومحمولة بالهليكوبتر على هذين المحورين.

شكلت الأيام العشرة الأخيرة المرحلة الأولى من الحرب. وفي تصور لا يخالجه الشك، أعتقد أن القوات المتقدمة فقدت، على الأقل في هذه المرحلة، زمام المبادرة الميدانية، وزخم الروح المعنوية. لقد تقدمت القوات البريطانية أربعين كيلومترا فقط لتتسمر حول البصرة، بعدما ساعدتها قوات أميركية في التغلب على المقاومة في منافذ العراق الصغيرة المطلة على الخليج.

أما القوات الأميركية فقد عجزت عن احتلال أي من المدن الاستراتيجية على الفرات (الناصرية. سماوة. النجف. كربلاء) على الرغم من التفوق الساحق في القوة النارية والمدرعة والجوية. المشكلة في المحور الفراتي ان القوات الأميركية بحاجة إلى عبور جسور ضيقة نسبيا على النهر لتندفع بمدرعاتها ومدفعيتها الثقيلة على الطرق العريضة السريعة المؤدية إلى بغداد.

لقد تمكنت قوات أميركية ضئيلة من عبور بعض هذه الجسور وسط مقاومة ضارية، محاولة التقدم بين النهرين باتجاه الكوت على قاطع دجلة، وذلك لتعويض الغياب البريطاني المتعثر جنوبا أمام البصرة. أما قوات الفرقة 101 المحمولة فقد انكفأت الى الخلف بعد اشتباك مع الحرس الجمهوري في شمال كربلاء، أصيبت خلاله طائرات الهليكوبتر كلها، باعتراف مراسل «نيويورك تايمس». ويجرى حاليا إصلاح العطب فيها.

في دراسة التفاصيل الدقيقة، يمكنني القول، بلا مبالغة، ان هناك الآن تداخلا بين خطوط الاشتباك، بحيث باتت طلائع القوات الأميركية مجمدة، أو بالأحرى محاصرة، بين النهرين وعلى الجسور وقبالة المدن، وتعاني من نقص خطير في التموين (الطعام. الوقود. المياه. الذخيرة) شل حركتها.

هذا التداخل تستفيد منه ميليشيات المقاومة سواء في هجماتها المتقطعة على الجسور، أو في اعتراض تقدم الطوابير الطويلة من الشاحنات والمدرعات المحملة بالمواد التموينية نحو المواقع والقوات «المحاصرة».

لماذا تعثرت الحملة الآنجلوأميركية؟

السبب ارتباك القيادة الميدانية نتيجة للخلاف المستحكم بين الفريق المدني (تشيني ورامسفيلد ويهود البنتاغون) وجنرالات الميدان والقيادة العسكرية العليا. أصر الفريق المدني على شن الحرب بقوات ضئيلة نسبيا والاندفاع بها نحو بغداد لتحقيق نصر سياسي، دون تقدير حقيقي لمشاعر العراقيين. وتراجع الجنرالات أمام الضغط عن تبني «مبدأ باول» الاستراتيجي في ضرورة الزج بقوات ضاربة كبيرة لتعزيز التقدم نحو الهدف المحدد، ولحماية خطوط التموين الطويلة والمكشوفة، هذا المبدأ الذي أثبت نجاحه في حرب الكويت.

في غمرة الارتباك، لم تعد القيادة الميدانية تعرف ان عليها احتلال المدن في الوسط والجنوب وتأمين خطوط الإمداد، أو استئناف التقدم نحو بغداد. وأحسب أن المرحلة الثانية من الحرب ستبدأ مع وصول قوات عسكرية أكبر وأكثر حرفة (100 ـ 150 ألف جندي) لفك الحصار واستئناف التموين واحتلال المدن الاستراتيجية.

وهكذا، فالحرب مرشحة للاستمرار مدة طويلة. ومعركة المدن ستكلف المدنيين خسائر كبيرة بدأت معالمها واضحة بقصف مدن البصرة وبغداد والناصرية وتكريت والموصل بقنابل الأعماق المروعة أو المدفعية الثقيلة. لقد تخلت أميركا عن «مراعاتها» الإنسانية للمدنيين، وربما تريد معاقبتهم لعدم تحركهم ضد النظام.

المرحلة الثانية لن تكون مرحلة الحسم. انها مرحلة تثبيت أقدام القوات الغازية. وستليها مرحلة استكمال تدمير البنية المتماسكة للنظام وقدرته على الاتصال وإدارة قواته الميدانية. المرحلة الأخيرة، لا شك، ستكون معركة بغداد، وهي معركة محتمة ما لم تحدث مفاجآت دراماتيكية تمنع وصولها إلى هذه النهاية المفجعة.

الحرب العراقية هي في الواقع حرب بين النظام والقوات الغازية، وليست حربا بين شعب مقاوم وقوات محتلة. لقد تم تحييد الجيش النظامي (300 ألف جندي) لعدم الثقة بولائه. ولم يتم بعد اختبار تماسك قوات الولاء (50 ـ 60 ألفا من الحرس الجمهوري).

ميليشيات النظام المتعددة برهنت على قدرتها على «تحييد» مدن الشيعة. لكنها ليست في النهاية قادرة على وقف الزحف إلى بغداد، أو حتى قطع خطوط الإمداد، بعد وصول التعزيزات الأميركية الإضافية.

انها قوات متحركة خفيفة الحركة والتسليح، لكنها ضعيفة التدريب. وقد نجح النظام في تشكيلها وتعبئتها معنويا، لكن لم يستطع التوسع في عددها بسبب ضيق قاعدته الشعبية. كذلك أخفق النظام في حماية بغداد من الغارات. لم يقم الطيران العراقي (300 طائرة) بطلعات انتحارية، واستهلك صدام سلاح الدفاع الجوي في مواجهات عبثية قبل الحرب، فيما كان عليه تطويره وتعزيزه للدفاع عن المدن وحماية قوات الاشتباك والحرس الجمهوري.

الحرب ستحسم لصالح التفوق الناري والتقني والعددي. لكن يبدو أن رؤوسا كبيرة هنا وهناك ستتدحرج لا بالقنابل، لكن بالأخطاء الاستراتيجية. سقط ريتشارد بيرل، وربما غدا رامسفيلد، قبل سقوط صدام. وحتى النصر لن يكون راحة ومكافأة لبلير وبوش. فستتم محاسبتهما على شن حرب غير ضرورية.

الغريب ان الفشل الأميركي في المرحلة الأولى، لم يكن مغريا للديبلوماسية العربية والأوروبية (الروسية خصوصا) على التحرك لبذل مسعى آخر لدى صدام للرحيل، بعدما أرضى غروره بنصر ميداني تكتيكي. ربما كسب معركة، قبل أن يخسر الحرب.