دجل أميركي على ضفاف دجلة

TT

الأسلحة الذكية، أصيبت بحالة هستيرية، فبعد الوعود بحرب تحرير «حضارية» تضرب أهدافاً انتقائية، ها هي تحرق المدنيين والمستشفيات وسيارات الإسعاف والتلفزيونات ومخازن الطعام، وتضل الصواريخ طريقها إلى سوريا وإيران وتركيا والسعودية. فكثافة النيران وعصبيتها ما عادت تميز الأصدقاء من الأعداء والشقر من السمر والصحافيين من الانتحاريين، ومشاهد جنوب العراق تؤكد أن ثمة هرجا ومرجا، واختلاطا للحابل بالنابل، وعطشا وجوعا، وفوضى تنذر بأبشع العواقب. وأميركا التي لم تخسر الحرب عسكرياً، وحققت تقدماً ليس بالقليل على مدار الأيام العشرة الأولى، بفضل طائراتها لا رجالاتها، خسرت سياسياً واعلامياً بسبب ادعاءاتها «الأخلاقية»، ونبرتها المتغطرسة، واحتقارها لعدوها، مقابل ثقتها العمياء بقدراتها التكنولوجية.

ولغاية الآن، ورغم توفر معدات النصر الأميركي وأدواته التي تبدأ برغيف الخبز وتنتهي بقنابل الفناء الجماعي، يتضح ان التعثر الأنجلوسكسوني هو في العمق «ذهني» لا «لوجستي». وقد نشرت مجلة «الاكسبرس» الفرنسية في عددها الأخير تحقيقاً يوضح كيف أن أميركا خططت لحربها بعين افتراضية، ولم تتنبه إلى أن ما تقوله الشاشات الالكترونية قد يبدو عصياً على الترجمة في المواقع الأرضية. وليس أدل على ذلك من أن الجيش العراقي خيب ظن المخططين، من اللحظة الأولى، حين حول نفسه إلى عصابات بأردية مدنية. وبالتأكيد لم تحسب الحواسيب قدراً يذكر لعصبيات العشائر والقبائل وعنفوان البطون والأفخاذ، ولم تأخذ بعين الاعتبار الاستشهاديين أو المتنكرين وناصبي الكمائن أو حساسية الغيارى على الأماكن المقدسة الشيعية من تدنيس الأحذية الغربية، وغضبة المتطوعين العرب، الذين وجدوها فرصة أن يأتي إليهم بأرجلهم هؤلاء الأميركيون، الذين كانوا يرونهم على الشاشات التلفزيونية. وإنه لمن الحمق الشديد أن تبسط الرؤيا الإنسانية للعراق، واعتبار هذا الوطن العريق، محض شعب معذب تحت وطأة نظام جائر، يكفيك أن تلوّح له، كي ينقلب ويتعاون ويتآخى مع مستعمريه ويشكرهم على حسن مسعاهم.

ثمة سذاجة في الطرح الأميركي يسخر منها الفرنسيون الذين خبروا العرب عن قرب، ويدركون أن أميركا إنما أتت لتوقظ الشياطين النائمة في المنطقة. وقد قال جيل كيبل وهو أحد كبار المتخصصين في السياسات الشرق أوسطية: «لقد تبين من مجرى الأيام الأولى للمعركة أن العراقيين يعرفون أميركا أفضل بكثير مما يعرف الأميركيون العراق». وإلا لما ورّط بوش نفسه من جديد ووعد بـ«نصر نهائي وكامل»، إذ ما فائدة أن يقطع رأس صدام وولديه المطلوبين، إذا تم ذلك بعد تحرير العراق من أرواح العراقيين، وما معنى النصر إذا كان نموذجه مدينة «أم قصر» التي تعتبر في حمى. الأنجلوسكسونيين، ويقول سكانها انهم لا يعرفون الأمن ولا يتذوقون طعم الهدوء. ولا بد أن الأميركيين بدأوا يشعرون بسخونة المغطس الذي سيقعون فيه يوم تصبح المعركة على مشارف بغداد، بعد أن أجبروا على تجاهل البصرة والناصرية وغيرهما من المدن بانتظار سقوط العاصمة، وها هم يؤخرون، لأكثر من ذريعة، تطويق «مدينة السلام»، وتحويلها إلى مدينة للموتى والأشباح، فالدخول على الجثث لا يمهد لديمقراطية ولا يمنح الراحلين الحرية.

وليس الحل للحليفين المصدومين والمروعين هو في توزيع الاتهامات والتهديدات على جيران العراق، بحجة الهلع من نظارات للرؤيا الليلية، أو دخول بعض المتطوعين لمساندة المقاومة البدائية، أو حتى رشق روسيا بجنحة تزويد العراق برادارات للتشويش، لا يبدو أنها تؤثر على مسار سياسة القصف الجهنمية. والأجدى هو أن يرى إلى المعركة الدائرة على أنها صراع فريد، وباللحم الحي بين التقليد والحداثة، وايديولوجيا الإنسان المقاتل في مواجهة ايديولوجيا الآلة الحربية. فهاك أعتى وأحدث جيش على الكرة الأرضية ينازل عدواً يحث جنوده على القتال بالمديح تارة وبالهجاء تارة أخرى على الطريقة الجاهلية. وبينما يدعو صدام القبائل للهجوم بالبنادق والعصي تسعى أميركا لاستئجار أقمار صناعية تجسسية إضافية، وكلما رفع الأنجلوسكسونيون من عدتهم السوبر تكنولوجية أعطيت الأوامر للمقاتلين العراقيين بالعودة إلى الأساليب ذات الصلة بالعصور الحجرية. والمحللون العسكريون يرون في هذه التكتيكات البابلية ما هو أفضل بكثير من المجازفة بإخراج طائرات يعود عمرها إلى عشرين سنة خلت، في مواجهة الطائرات الشبحية.

وهكذا قررت المقاومة العراقية، في غفلة من الدهر، الانضمام إلى مدرسة المقاومة اللبنانية والفلسطينية، لتبدو وكأنها امتداد جغرافي وعضوي لما جرى في لبنان ويدور على الأراضي الفلسطينية. وبعد أن يسكب الأميركيون جنون الأطنان من نيرانهم على رؤوس العراقيين، تصيب هنا وتخيب هناك، كما هو حاصل الآن، وتوقع الآف الضحايا، يدعي الغزاة، بكل وقاحة، أنهم ماتوا بمضاداتهم الدفاعية الوطنية، لا بد في النهاية من معارك أرضية، ومن معايشة بين الطرفين حياتية يومية. وإذا ما قرر العراقيون المضي في مقاومتهم مع صدام أو بدونه لتحرير العراق من الاستعماريين الجدد، فإن جيش روما الحديثة بعنجهيته سيتحول إلى شرطي حراسة، وقوة قامعة لحركات شغب، ووقود لعمليات انتحارية. أما إذا وسّعت أميركا رقعة غزوها مدفوعة بشهوتها الاستعمارية، واعتبرنا أن التحرش بسوريا وإيران هو محض مقدمات لفبركة مبررات إعلامية ذات نوايا هجومية مستقبلية، وهو مما ليس بمستبعد، فإن باب جهنم يكون قد فتح على مصراعيه، وليس لكل مواطن في إسلامستان إلا أن يقول على طريقة ذاك العراقي اليائس: «أنا أسلحة الدمار الشامل».

[email protected]