«نابليون هويدي والحمد»

TT

«الحملة الأمريكية على العراق ـ بكل سلبياتها القريبة او البعيدة ـ قد تجبر العرب على الانخراط في العولمة» هكذا قال الدكتور تركي الحمد في مقالة («الشرق الأوسط» 23/3) ليرد عليه فهمي هويدي في اليوم التالي قائلا «منذ متى كان الغزاة يسعون الى تحرير الآخرين وتمدنهم» (24/3) ولولا معرفتي ككاتب بظرف الطبع والكتابة لظننت ان هويدي بالفعل يقصد مقال الحمد ويرد عليه، ولكن تمثل المقالتان بالنسبة لي موقفين لتيارين، يفسران الاشياء ذاتها تفسيرا مختلفا ويريان الاشياء من زاويتي نظر. ولكن الاغرب في الامر هو المصادمة العجيبة في ان يختار كلاهما نابليون وحملته الفرنسية على مصر والتي رآها الحمد على انها صدمة الحداثة التي اخرجت مصر من حالة ركود وسكون، ورآها هويدي على انها تبشير مسلح يقوم به انبياء كذابون يقولون ما لا يفعلون، «وكل ما انجزوه من خير جاء عرضا جانبيا».

لفتت نظري حكاية التركيز على نابليون هذه، ترى هل حدث الحملة الفرنسية هو الحدث الأول لوجود العرب في مشاكل مع الغرب؟ مع الاحتفاظ بادراكي بأننا نستخدم المصطلحات العمومية مثل الشرق والغرب بشكل منساب وغير محدد. ولماذا نابليون بالذات هو ذلك الملهم الوحيد سواء كانت حملته شعلة حداثة عن طريق ايصال الطباعة الى العالم العربي او حتى عن طريق فك رموز حجر رشيد، او كانت دعوته هي امتداداً للحملات الصليبية المختلفة؟

وعندنا في الصعيد اغنية نوبية وشعبية تقول ايضا «في عشق البنات أنا فوقت نابليون» رغم ان نابليون كان قزما قبيحا لم يتغن له أحد في أوربا بموضوع عشق البنات هذا، فترى لماذا كل هذه الهالة حول نابليون هل هي بالفعل مردودة الى الرجل الامبراطور ذاته ام انها مرتبطة بمخيالنا نحن واسلوبنا الذي يكاد يشبه الاجماع في تحديد التاريخ المشيأ او التاريخ الايقونة الذي نتوقف عنده لا فضل في ذلك لليبرالي على اسلامي او السعودي على مصري. لا شك ان الحملة الفرنسية كانت حدثا مهما واذكر الخلاف الذي جرى على تقييمها عندما حاول الفرنسيون ومعهم كثيرون في مصر الاحتفال بمرور مائتي عام على هذه الحملة. يومها انقسم المجتمع المصري بين رافض للاحتفال بالظلم والعدوان، وكانت نظرة هؤلاء قريبة من رؤية هويدي، وبين نصف آخر رأى ان الحملة الفرنسية كانت أداة تنوير وهو رأي مشابه لرأي الدكتور تركي الحمد. ورغم ان الحمد صديقي وبيننا مودة، الامر الذي لا استطيع قوله عن هويدي الذي لم اقابله قط في حياتي، الا أنني اجدني مختلفا معهما معا.

ولتوضيح نقطة الاختلاف الاساسية دعني ابتعد كثيرا عن تاريخ منطقتنا العربية وعلاقتها بالغرب محاولين ان نتحسس علاقة منظومة ثقافية اخرى بالغرب تتحدث عن اشياء قريبة الشبه ولنأخذ حالة اليابان مثالا، لنقارن مدافع نابليون (النبي المسلح الكاذب) وآلة الطباعة (التنوير)، بأشياء مماثلة وكيف تعامل معها اليابانيون، لنوضح امرين احدهما الحداثة وثانيهما العولمة وعلاقتهما بالتكنولوجيا، سواء أكانت تكنولوجيا العنف ام غير ذلك. ولنبدأ بالحديث عن تاريخ وصول البندقية لليابان وكيف تعامل اليابانيون معها وتاريخ لعب الاطفال التي طورها اليابانيون الى الانسان الآلي، وايضا الساعة ومقياس الوقت، وكلها مؤشرات حداثة ومنطلقات عولمة.

في عام 1538 جاءت سفينة برتغالية الى جزيرة مكاو وعليها طاقمها البرتغالي وكان يصحبهم ملاح صيني وكانت السفينة محملة بالبنادق، دفعت العواصف بالسفينة حتى صدمتها بجزيرة تنقاشيما (Tangashima)، تلك الجزيرة التي تحمل اسم قبيلة يابانية ويتلقب شيخها بنفس اللقب. في هذا الوقت كانت اليابان في حرب أهلية من ضمنها حرب سنقوكو (Sengoku). عندما رأى شيخ القبيلة البندقية، دعا الحدادين وطلب منهم صناعة واحدة مثلها، وبما انه معروف عن اليابانيين فن التقليد والمحاكاة، استطاع الصناع صناعة بندقية مماثلة، ولكنهم فشلوا في معرفة سر ميكانيكا اطلاق النار، أي انهم صنعوا شيئا شبيها دونما فعاليته وخصائصه الميكانيكية. ومر عام حسب ما هو سجل لدى اليابانيين والبرتغاليين ايضا، وعادت السفينة الى ساحل تنقاشيما مرة اخرى وعليها نفس الكابتن، ونفس الملاح، فطلب أحد الحدادين منه اعطاءه سر البندقية أي ان يعلمه ميكانيكية اطلاق النار، ولم يعط الكابتن السر للحداد الا بعد ان وعده بأن يزوجه بنته الجميلة (وكاسا) وهي كلمة تعني الربيع. وعرف اليابانيون البندقية او على الاقل تلك الجزيرة. واثرت البندقية على تغير مسار الحرب الأهلية تأثيرا كبيرا، ولم تنفعل اليابان كثيرا بعلاقتها بالغرب لحظتها، هي فقط حصلت على تكنولوجيا البندقية ثم كيفتها وطورتها بشكل آخر، ثم انكفأت اليابان على نفسها في لحظة انعزال. لم يكن الغرب جزءاً كبيراً في حياتها رغم وجود تواصل واستمرار بأشكال عدة، منها حركات التبشير الجزويتية التي حاولت تغيير حياة اليابانيين من السنوتو والبوذية الى الكاثوليكية، وها هي اليابان حتى الآن لم تتغير كثيرا. الاحتكاك الذي يتحدث عنه الكثيرون هو احتكاك الحرب وأثره على ديموقراطية اليابان، الحقيقة هي ان ما نراه في اليابان ليس صنيعة الغرب كما يود الأمريكيون ان يتصوروا ذلك او أية صناعة يابانية وحداثة كما يتصور بعض اليابانيين انفسهم، كما نرى رئيس وزراء اليابان يتغير مرة بمعدل كل سنتين ولا نحس به وربما لا نعرف اسمه. الديموقراطية اليابانية هي نتاج المؤسسات اليابانية التقليدية وتفاعلها مع الحالة الغربية لكنها لا هي غربية كاملة او يابانية خالصة. ولكن ليست تلك هي القصة الاساسية. ما اود قوله هو امران; ان هناك احتكاكاً اسبق بين الشرق والغرب بدأ قبل الحرب العالمية بكثير كما ذكرت في حديث البندقية وليست الحرب هي أول احتكاك مهم كما يتصور البعض رغم ما حدث في تلك الحرب. وليس الامر بيد اليابانيين او حتى الغربيين، وان فهم كل منهما لما حدث قاصر بالدليل التاريخي، ولكن يهيئ لكل منهما انه على حق. ودعني هنا اضرب مثلا ربما يوضح الامر بشكل افضل.

ولنأخذ تاريخ شيء محدد مثل الكتابة الخشبية (woodlock print) فمثلا في القرن السادس عشر، قبل بداية العولمة، كان اليابانيون يصنعون فنا للاستهلاك الأوربي على انه فن ياباني وبعد ما هو اقرب من ثلثمائة عام وتحديدا في عام 1880 يكتشف أحد تجار القطع الفنية او سماسرة الفن في باريس ـ في تلك الفترة كان الفن الأوربي يبحث عن وسائل مختلفة للتعبير فتأثر تلوز ليترك مثلا بالفن الياباني اما ظنه ياباني مما كان مصدرا لأوربا في القرن السادس عشر واكتشف بعد ذلك في باريس في 1880. على أية حال تأثر تلوز ليترك بهذا الفن وكذلك تأثرت به حركة الانطباعيين. ولما حاول الفنانون اليابانيون التعرف على الحركة الأوربية الحديثة في الفن اخذوا كثيرا من المدرسة الانطباعية وخصوصا من اعمال تلوز ليترك وظنوا انهم يقلدون أوربا رغم انهم يقلدون ما صدر من اليابان الى أوربا في القرن السادس عشر، او ما تأثرت به أوربا.

في بداية القرن العشرين اكتشف اليابانيون ايضا بعض الرسومات التي تبقت بعد هدم المعابد البوذية في اليابان وعرضوها في باريس وفلادلفيا ولندن على انها فنهم الوطني. النقطة الاساسية هنا هي ان هذه الاشياء الفنية شكلت رؤية أوربا عن اليابان رغم انها مصنعة خصيصا للاستهلاك الأوربي، وهي ايضا التي شكلت رؤية اليابانيين لأنفسهم، أي ان الوجه بدأ يشبه القناع وليس العكس.

ولكن لليابانيين تجارب مختلفة فيما يخص عولمة البصريات ولم تكن لديهم النقاشات الاصولية او الدينية حول استخدامها كما نرى في العالم العربي، فمثلا عندما قدم التلسكوب والميكروسكوب قال اليابانيون ان مثل هذه البصريات الدقيقة تساعدهم على رؤية داخل الروح البوذية.

نفس الشيء حدث عندما قدم الأوربيون لعب الأطفال فطورها اليابانيون حتى وصلت الى الانسان الآلي، ولأنهم على عكس الأوربيين الذين كانت لديهم فكرة فرانكنشتين المخيفة لم يكن لدى اليابانيين مثل هذا التصور. نفس الشركات العملاقة التي نراها الآن مثل نيسان وتويوتا وغيرهما بدأت بصناعة لعب الأطفال حتى تطورت الى الانسان الآلي، فرغم ان تكنولوجيا اليابان كانت مأخوذة من الآخر الغربي الا ان الواسطة كانت التكنولوجيا ذاتها واختفت حالة الاشتباك الحضارية مع الغرب على عكس ما هو حادث في العالم العربي.

النقطة الاساسية هنا هي ان العولمة على الاقل على مستوى حركة التكنولوجيا بدأت منذ زمن طويل، ومثال البندقية البرتغالية واضح. نفس الشيء يمكن قوله في حركة الفن والآداب، وان هذه الحركة كانت دائرية، تؤثر وتتأثر ولا يمكن ان نقيم حجة على ان أحدهم انتج والآخر استهلك ولكننا نرى في حالة الفن والتلسكوب وغير ذلك عمليات تطوير وتحديث وتكيف للتكنولوجيا.

يحكي الانثربولوجي الهندي أميتاب جوش، ايام كان طالبا لدرجة الدكتوراه بجامعة أكسفورد، انه ذهب الى قرية مصرية في الدلتا قرب المنصورة سماها نشاوى في كتابه الاخير. هناك لم يحترمه أهل القرية ذلك لأنه باحث انثربولوجي ملون يسأل اسئلة ساذجة وبريئة عن أهل القرية، ولم يكتشف أهل القرية قيمة أميتاب الا عندما اشترى أحد الزراع ماكينة ري مصنوعة في الهند. ولما لم يعرفوا مدى جودتها تذكروا ان لديهم هذا الهندي، ودخل أميتاب على الميكنة، والقى عليها نظرة العارف رغم انه لا يفهم في امور الزراعة شيئا. نظر اسفل الميكنة ثم اعلن للحاضرين انها ميكنة هندية جيدة. زاد اعجاب الحاضرين بأمتياب وكذلك زاد احترامه في القرية فقط لأن ميكنة الزراعة مصنوعة في الهند. فكتب في كتابه: ترى بماذا كانوا سوف يعاملونني لو انني من بلد يصنع الطائرات.

القصة مهمة من زاوية اننا ننبهر بهؤلاء الذين يأتون الينا ومعهم التكنولوجيا، سواء أكانت تكنولوجيا العنف من مدافع نابليون حتى التوماهوك، ام الذين يأتون الينا بالمطبعة في حالة نابليون او بالكمبيوتر في حالة بيل جيتس او حتى الذين يقدمون لنا لعب الاطفال.

حكاية عولمة العنف اعقد بكثير حتى من الحرب الدائرة في العراق، فمحمد عطا كان معولما بنفس الطريقة التي نرى بها عولمة عنف المارينز، كذلك صدام حسين معولم وكلهم نتاج واحدة من تجليات الوجه القبيح للحداثة، هي حداثة وعولمة العنف، وما العولمة الا أحد اوجه الحداثة. ترى لماذا يكون نابليون هو نقطة انطلاقنا في الحديث عن انفسنا وعن العالم رغم وجود آلاف الامثلة الاخرى؟

للحديثة بقية.