أخطاء قاتلة ارتكبها الذين خططوا لهذه الحرب!

TT

ثلاثة أخطاء ارتكبها المخططون الأميركيون الاستراتيجيون قبل أن يشنوا هذه الحرب الدائرة والمحتدمة الآن وقبل أن يرسلوا جيوشهم إلى هذه المنطقة لإسقاط نظام الرئيس العراقي صدام حسين واستبداله بنظام ديموقراطي وفق مواصفات عالم اليوم، وهذه الأخطاء هي:

* عدم استباق الحرب بوضع ولو بعض المساحيق التجميلية على الصورة الأميركية البشعة جداً بالنسبة للعالمين العربي والإسلامي، أبناء هذه المنطقة على وجه التحديد، ولقد كان بإمكان الولايات المتحدة القيام ببعض الخطوات السياسية الفعلية التي توحي بأن واشنطن عاقدة العزم فعلاً على إنجاز حل للقضية الفلسطينية، فيه بعض الإنصاف للفلسطينيين واجتراح بعض حقوقهم.

لم يحدث هذا على الإطلاق ولو بالحدود الدنيا، ولهذا ورغم تأكيدات الرئيس الأميركي جورج بوش الابن المتلاحقة حول «خارطة الطريق»، وحديثه المتواصل الخافت عن ضرورة إقامة دولة فلسطينية «تعيش بأمان واطمئنان إلى جانب دولة إسرائيل»، فقد بقي الانطباع العام لدى العرب جميعهم ولدى المسلمين كلهم، وهو انطباع صحيح، ان الإدارة الأميركية الجمهورية الحالية بغالبية رموزها إدارة أكثر صهيونية من حكومة إسرائيل «الليكودية» بقيادة ارييل شارون وأنها ملتزمة بالأساطير والخرافات التلمودية والتوراتية حول ما يسمى بالأرض الموعودة وعودة المسيح أكثر من أكثر الأحزاب اليمينية الإسرائيلية رجعية وأصولية.

وهكذا ولأن الانحياز الأميركي، ليس لإسرائيل فقط، وإنما للتطرف الصهيوني ايضا، في عهد هذه الإدارة غدا فجاً ومتحدياً للمشاعر العربية والإسلامية، فإن ظهور الجنرال فرانكس في قاعدة السيلية في قطر بقي يذكِّر العرب والمسلمين بوزير الدفاع الإسرائيلي شاؤول موفاز، كما ان ما واصل رامسفيلد قوله بقي يذكرهم بما يقوله شارون وما كان قاله اسحق شامير ومناحم بيغن.

ثم وفي هذا السياق ذاته، فإن كل أهل هذه المنطقة، بل كل العرب والمسلمين ومعهم ايضا شرائح عريضة من الرأي العام الغربي ومن ضمنه الرأي العام الأميركي، لم يتذكروا وهم يشاهدون الأطفال العراقيين وهم يرتجفون هلعاً وخوفاً أمام الدبابات الأميركية ويسقطون على الطرقات كالعصافير إلا محمد الدرة والأطفال الفلسطينيين الذين يسقطون كل يوم برصاص جنود الاحتلال الإسرائيلي.

لا توجد أي مشكلة لا للعرب ولا للمسلمين مع الولايات المتحدة لولا انحياز هذه الدولة، التي غدت تهيمن على العالم كله بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وانتهاء الحرب الباردة، لسياسات ومواقف أكثر الأحزاب اليمينية الإسرائيلية رجعية وتطرفاً وصهيونية، ولعل ما لا يعرفه الاستراتيجيون الأميركيون الذين خططوا لهذه الحرب ان مرد هذا الموقف الذي تقفه شعوب هذه المنطقة ليس الحب لصدام حسين ونظامه، بل الكره الشديد لأميركا وسياساتها تجاه فلسطين والقضية الفلسطينية على وجه التحديد.

* إن هذا هو الخطأ الأول الذي ارتكبه الأميركيون قبل أن يذهبوا إلى الحرب، أما الخطأ الثاني فهو ان التصريحات الاستفزازية التي دأب دونالد رامسفيلد، قبل الحرب وبعد اشتعالها، قد وضعت كل أنظمة الحكم في هذه المنطقة في سلة واحدة إلى جانب صدام حسين ونظامه، ولهذا فإن شعار هؤلاء جميعا غدا «أكلت يوم أكل الثور الأبيض» ولا بد من إطفاء الحرائق التي أشعلها الأميركيون في العراق حتى لا تصل إلى بلادنا.

هل هناك أكثر غباء وعنجهية وقصر نظر من أن يواصل رامسفيلد وغيره من متطرفي ودهاقنة الإدارة الأميركية الحالية التلويح والتهديد بأن حلقة التغيير بعد العراق ستتسع لتشمل دولا أخرى في المنطقة من بينها إيران وسوريا..؟!.

إنه شيء طبيعي أن تقف دول المنطقة هذه الوقفة من الحرب، حتى وإن كانت لا تدعو لصدام ولنظامه إلا بالويل والثبور وعظائم الأمور، فلقد شعرت وأشعرها رامسفيلد أكثر من مرة أن هناك أنظمة غير نظام صدام حسين ستواجه ما سيواجهه الرئيس العراقي وأن «الديموقراطية» التي ستفرض على العراق بجنازير الدبابات وبصواريخ كروز وتوماهوك سوف تفرض أيضا على دول عربية وإسلامية أخرى.

إن من حق سوريا أن تعلن عن تعاطفها مع صدام حسين ونظامه رغم كل تجاربها المريرة مع هذا النظام فهي دولة مستقلة وذات سيادة وما ينطبق على فرنسا وألمانيا والصين وروسيا ينطبق عليها، ولهذا فإن التهديدات التي أطلقها ضد هذه الدولة العربية بعض رموز الإدارة الأميركية، ومن بينهم رامسفيلد وأيضا باول، قد زادت قناعة دول المنطقة بأنها مستهدفة وزادت قناعتها بضرورة محاصرة النيران التي تعالت ألسنتها في العراق حتى لا تنتقل إليها في المراحل اللاحقة.

* ثم وبالإضافة إلى هذين الخطأين، هناك خطأ فادح وقاتل أيضا وقع فيه المخططون الاستراتيجيون الأميركيون، وهو انهم اعتمدوا على معلومات مظللة وغير صحيحة، ان بالنسبة لإمكانيات وقدرات النظام العراقي العسكرية والتسليحية وان بالنسبة لسيطرة هذا النظام من خلال حزب البعث الحاكم وخلاياه وشعبه على شوارع المدن والقرى في الجنوب.

لم يأخذ الذين خططوا لهذه الحرب بعين الاعتبار أن اهل الجنوب العراقي فقدوا الثقة بالولايات المتحدة وباتوا لا يصدقون انها عاقدة العزم فعلا على اسقاط صدام حسين ونظامه، فهم أصحاب تجربة ولقد خذلتهم أميركا في عهد جورج بوش الأب ولم تكتف بالتخلي عنهم عندما قاموا بانتفاضتهم الشهيرة في عام 1991، بل سمحت للنظام، الذي تقول الآن إنها تريد اسقاطه، باستخدام الطائرات المروحية لقمع تلك الانتفاضة التي لو لم تقمع بالطريقة البشعة التي وافق عليها الأميركيون لكانت الأمور على غير ما هي عليه اليوم.

لقد اعتقد المخططون الاميركيون استناداً إلى تقارير المعارضة العراقية الخارجية ونتيجة استنتاجات استخبارية خاطئة ان أهل الجنوب سيهرعون لاستقبال القوات الغازية بالورود والزهور مع اجتياز أول دبابة للحدود العراقية ـ الكويتية، ونسي هؤلاء المخططون تجربة انتفاضة عام 1991 الآنفة الذكر المحبِطة، كما لم يدركوا ان نظام صدام استفاد من تلك التجربة وأنه شدد قبضته على كل القرى والمدن الجنوبية ومكّن اعضاء حزبه الحاكم من السيطرة على كل شارع وعلى كل زاوية في هذه المدن والقرى.

كانت تقديرات المخططين الأميركيين غير دقيقة بل خاطئة في كل شيء وحتى بالنسبة للإعلام فإنهم لم يأخذوا بعين الاعتبار أن المشاهد والمستمع العربي لا يثق إطلاقاً بوسائل الإعلام الأميركية ولا البريطانية، وكان عليهم ان يعطوا ضبّاطهم وقادتهم العسكريين تعليمات بمنح تسهيلات أكثر لوسائل الإعلام العربية على جبهات القتال المتقدمة.

وهنا وعلى هذا الصعيد، فإن ما يثير الاستغراب هو أن الأميركيين والبريطانيين لم يعطوا لرموز وفصائل المعارضة العراقية أي دور، لا في مجال الإعلام ولا في مجال تغليف الغزو بعباءة هذه المعارضة، كأن يكون لبعض كبار الضباط العراقيين الذين كانوا انشقوا على النظام وفروا الى الخارج دور في الحديث عن الوقائع اليومية وتطورات المعركة وكأن تكون الحرب كلها تحت راية قوات «التحرير» العراقية الوهمية.

ربما تطول هذه الحرب أكثر كثيراً مما كان متوقعاً وربما يتغير كثيراً واقع الحال بين لحظة وأخرى، لكن ومع ذلك فإن هذه الأخطاء الآنفة الذكر ستبقى تذكر كأخطاء قاتلة ارتكبها الاستراتيجيون الأميركيون، ولعل أول هذه الأخطاء القاتلة التي سيعاني الأميركيون بسببها الكثير حتى وإن هم انتصروا عسكرياً وتمكنوا من إطاحة صدام حسين ونظامه، هو انهم لم يحاولوا تحسين صورتهم وتجميل سحنتهم في هذه المنطقة التي سيبقون يتعاملون معها، كما هو واضح، لفترة طويلة.

على الأميركيين أن يدركوا، بعد كل ما لمسوه وشاهدوه وهم سيلمسون وسيشاهدون الكثير.. الكثير في المراحل المقبلة، انه عليهم ان يتعاملوا مع القضية الفلسطينية بغير الأساليب السابقة وانه عليهم ان يعرفوا أن هذه القضية تشكل ضمير المنطقة العربية والعالم الإسلامي، وان انحيازهم الأعمى لأبشع السياسات الإسرائيلية تطرفاً هو الذي يجعلهم مكروهين حتى هذا الحد.

وعلى الأميركيين أن يدركوا أن تصريحات وتلويحات وتهديدات رامسفيلد وأمثاله، هي التي جعلت الأنظمة العربية تقف هذا الموقف وجعلت بعضها يصطف خلف صدام حسين وهي التي ستجعلهم غير مقبولين في هذه المنطقة حتى وإن أقاموا ديموقراطية وردية في العراق وحتى وإن فرضوا «خارطة الطريق» على شارون وحكومته اليمينية.

لا يوجد إنسان واحد في هذه المنطقة مقتنع بحكاية أن الغزو الأميركي ـ البريطاني هو من أجل أن ينعم العراق بالديموقراطية وهو من أجل سواد عيون العراقيين، فالكل يعرف أن الهدف هو السيطرة على النفط وهو تثبيت الأحادية القطبية للولايات المتحدة وخنق أي محاولات لإعادة الوضع الدولي إلى ما كان عليه قبل انهيار المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة.

ولا يوجد نظام واحد في هذه المنطقة إلا ويتمنى الزوال لصدام حسين ونظامه، لكن هذه الأنظمة كلها تريد أن تتأكد من ان ما يقوله ويصرح به رامسفيلد ومجموعة الحاخامات في الادارة الاميركية لا يمثل حقيقة سياسة الولايات المتحدة وانه مجرد جعجعات فارغة وعابرة وان دائرة ما جرى في العراق لن تتسع لتشمل آخرين في هذه المنطقة.

لا شك في أن الميدان العالمي بات خالياً أمام الولايات المتحدة رغم مشاغبات فرنسا وألمانيا ومعهما روسيا أولا والصين ثانيا، لكن يجب أن يدرك الأميركيون أن سبب زوال الامبراطوريات التي سبقت امبراطوريتهم هو أن هذه الامبراطوريات لم تحاول تصحيح اخطائها وانها بقيت تتصرف بعنجهية الغارق حتى أذنيه في نشوة القوة.