معالم وتداعيات العدوان على العراق

TT

الأيام التي انقضت منذ بدء العدوان الاميركي البريطاني على العراق كشفت معالم الحرب التي تدور بين اقوى دولة في العالم، ومعها اقدم الدول الاستعمارية، وبين دولة من دول العالم الثالث، واظهرت التداعيات التي يمكن ان تحدث في المستقبل نتيجة هذه المأساة التي كان يمكن تفاديها بالالتزام بالشرعية الدولية وميثاق الامم المتحدة وقرارات مجلس الامن لولا الاصرار الاميركي على ارتكاب هذه المأساة التي سوف يسجلها التاريخ كوصمة للانسانية في مطلع القرن الواحد والعشرين، ولا شك ان دماء الابرياء من الشعب العراقي الذين يتساقطون تحت وابل الغارات والصواريخ الاميركية البريطانية سوف تكون ابلغ شهادة لادانة هذا العدوان الذي استندت اميركا في شنه الى وجود اسلحة دمار شامل عند النظام العراقي، والى انه من الواجب تحرير الشعب العراقي من قسوة نظامه، وقد اظهرت الاحداث التي جرت في الايام الماضية عدم صحة هذه الدعاوى، فلم تظهر في ميدان القتال حتى الان اسلحة دمار شامل عراقية، كما ان الشعب العراقي لم يخرج بالورود لاستقبال الغزاة باعتبارهم محررين، وأن الابرياء الذين قتلوا هم الذين ادعت الادارة الاميركية انها قامت بالعدوان من اجل تحريرهم من ظلم النظام.

العدوان اذن كان مدبرا لأهداف اخرى هي تأكيد السيطرة الاميركية على منطقة الشرق الاوسط الاستراتيجية والغنية بالنفط، كخطوة اساسية للهيمنة على العالم، والاصرار على العدوان رغم فشل اميركا في الحصول على اغلبية دول مجلس الامن هو أمر يدل على رغبة واضحة في تجاوز قرارات الامم المتحدة وترجيح القرار الاميركي المطلق، وقد وضع العدوان العالم في حالة جديدة تتنافر فيها المواقف بشكل واضح بين اقلية من الحكومات تؤيد الحرب وتساندها، وبين اغلبية ترفضها وتطلب وقفها وتعتمد في ذلك على ميثاق الامم المتحدة.

ولكن بعض المعالم التي وضحت حتى الآن تظهر ان الطريق لتحقيق ذلك ليس سهلا، رغم رجحان الكفة الاميركية في مجال القوة العسكرية، فالمقاومة الشعبية العراقية لم تقدر تقديرا صحيحا من جانب واضعي الخطط الاميركية كما صرح بذلك مسؤولون عسكريون في البنتاجون وقد نسبت صحيفة الهيرالد تريبيون الى هؤلاء المسؤولين قولهم ان الاستراتيجية الاميركية افترضت خطأ ان قوات المقاومة العراقية ستبقى في بغداد ولن تذهب الى البصرة والناصرية والنجف وكربلاء وهي المدن التي تحاول القوات الاميركية السيطرة عليها في طريقها لبغداد.

ولا شك ان هذه المقاومة الشعبية وخاصة اذا استمرت وتصاعدت سوف تسقط حجة الاميركيين والبريطانيين في أن العدوان قد تم من اجل انقاذ الشعب، غير مدركين ان الشعوب ترفض وتقاوم اي محاولة لغزو اراضيها والسيطرة على مقدراتها والتدخل في شؤونها الداخلية مهما كانت اخطاء النظام، فالتحرير والديمقراطية لا يأتيان من المستعمرين!

والى جانب الخطأ الذي اعترف به المسؤولون في البنتاجون بعدم تقديرهم المقاومة الشعبية تقديرا صحيحا، فإن الظاهرة الاخرى التي فرضت نفسها على الساحة السياسية كانت التضامن العربي مع شعب العراق والذي تجسد في المظاهرات والمسيرات والبيانات التي عمت معظم الدول العربية واظهرت رفضا مطلقا للعدوان، وضاعفت من الكراهية للمعتدين.

وكان اجتماع وزراء خارجية الدول العربية في القاهرة تعبيرا ايضا عن الرفض العربي الشامل للعدوان، والتمسك بالشرعية الدولية حيث تقرر رفع الامر الى مجلس الامن والجمعية العامة للامم المتحدة، ومنتظر الا تستجيب اميركا لقرارات المنظمة الدولية، لكنها عندئذ سوف تحكم على نفسها بالعزلة وليس بالهيمنة لان اغلبية دول العالم تقف ضد العدوان، والتحالف الذي تستند اليه اميركا هو نوع من الرغبة في الظهور بالقدرة على تجميع عدد من الدول التي قبضت الثمن من الإدارة الاميركية التي طلبت من الكونجرس زيادة الاعتمادات المخصصة للحرب بمبلغ 75 مليار دولار لتعطي هذه الدول ما يشتري تأييدها أو صمتها، وذلك في وقت تعاني فيه اميركا من متاعب اقتصادية حيث زادت البطالة الى 2.5 مليون عاطل، وقل حجم التجارة الخارجية، وظهرت للحرب تأثيرات سلبية على الاقتصاد الاميركي خاصة اذا طالت مدتها.

ويمكن رصد المعارضة الاميركية لقرارات بوش في المظاهرات التي تطوف في عدد من المدن الاميركية ومنها واشنطن، والتي يمكن ان تتصاعد اذا ما زادت هذه المتاعب الاقتصادية، لان ادارة بوش قد خفضت الضرائب مما يجعل تراجعها عن هذا القرار أمرا صعبا.

وقد عبر المخرج الاميركي الشهير (مايكل بور) الذي حصل على جائزة الاوسكار للافلام التسجيلية عن معارضته للرئيس بوش ابلغ تعبير عندما اعلن امام الفضائيات رفضه وإدانته للعدوان معتبرا ان أسبابه وهمية قائلا: نحن ضد الحرب يا بوش.. الخزي والعار لك يا بوش.

ومما يظهر اثر هذه المعارضة الشعبية الاميركية لقرارات بوش ان الاجهزة الاميركية قد اعتقلت 2000 متظاهر في سان فرانسيسكو بتهمة تعطيل المرور، واعتقال كل طالبي اللجوء السياسي خاصة من العرب، وهو امر يذكرنا بما قامت به اميركا من اعتقال اليابانيين الاميركيين بعد حادث بيرل هاربر الذي قصفت فيه الطائرات اليابانية الاسطول الاميركي وكان ذلك سببا في دخولها الحرب واستخدامها القنابل الذرية ضد هيروشيما ونجازاكي لاول مرة في التاريخ.

والخشية في العدوان الاميركي على العراق ان تلجأ القوات الاميركية الى استخدام اسلحة دمار شامل اذا تعثرت خطتها في الاستيلاء على العراق واسقاط النظام، وهو امر وارد لان الادارة الاميركية لا تتحمل الهزيمة أو عدم تحقيق اهدافها بعد كل ما قامت به من ترتيبات ومصاريف، وكل ما اعدته لتحقيق هدفها في الهيمنة على العالم.

واخيرا، ننظر الى تداعيات العدوان وما يمكن ان تسفر عنه من احتمال هزيمة العراق، ونرصد معارضة روسيا وفرنسا والصين لانفراد اميركا بادارة العراق واقامة حكم عسكري تحت قيادة جنرال امريكي بعد الحرب، وهي قضية شديدة التعقيد لانها تشكل عودة لصورة من صور الاحتلال والاستعمار القديم الذي عانت منه جميع الدول العربية خلال القرن الماضي والذي يرفضه شعب العراق بأجمعه سواء من الحكم أو المعارضة، والتاريخ لا يعيد نفسه وما كان طبيعيا وممكنا في القرون الماضية يصعب ان يتكرر في القرن الواحد والعشرين.