ثلاث حروب في العراق وحوله

TT

في العراق، اليوم، وحوله، اكثر من حرب، اهمها واقساها وابشعها تلك الجارية على ارضه بين القوات الاميركية ـ البريطانية والقوات العراقية. ولكن الحروب الاخرى قد لا تقل خطورة عنها. هناك، اولا، الحرب الاعلامية التي اتخذت حجما كبيرا لم تعرف الحروب قبل اليوم مثيلا له. فالتلفزيونات التي اصبحت فضائيات عالمية، ولا سيما العربية منها، تخوض حربا اخبارية لها تأثير مباشر على معنويات المتقاتلين في العراق وعلى الحكومات والشعوب في كل انحاء العالم. ولما كان كل فريق من المتقاتلين حريصا على كسب الحرب الاعلامية فإنه مضطر الى المبالغة والتمويه والكذب احيانا، فتتشوه الحقائق وتتضارب الخيارات والضغوط على مستوى المسؤولين السياسيين والقادة العسكريين والرأي العام. لقد اصبحت وسائل الاعلام المعاصرة سلاحا عسكريا لا يقل اهمية عن الطائرات والدبابات والصواريخ، بل قد تكون اخطر منها، اذ بيدها تحويل المعركة من حرب بين الادارة الاميركية والنظام العراقي الى عداء فحرب بين الشعب الاميركي وبين العرب المسلمين.

وهناك، ثانية، الحرب بين «الامبراطورية الاميركية» الجديدة والعالم وليس بينها وبين العرب والمسلمين، فحسب. ان ارتفاع الولايات المتحدة الى القمة العالمية وتفردها في الجلوس فوقها، ظاهرة وواقع يقلق كل دول العالم، ولا سيما الدول الكبرى، كروسيا والصين والاتحاد الاوروبي. ومعارضة هذه الدول للحرب على العراق، ليست الا مظهرا من مظاهر قلقها ومعارضتها المستترة للهيمنة الاميركية. ان معظم ان لم نقل كل دول العالم تخشى على نفسها وعلى مصالحها من هذا التفرد الاميركي بالهيمنة، ولكنها تحتاج الى مساعدة الولايات المتحدة المالية والاقتصادية. والسؤال الذي يتكرر طرحه، اليوم، هو: الى اي حد ستصل المعارضة العالمية لسياسة الولايات المتحدة، اي على استراتيجيتها في مقاومة الارهاب؟ ام في فرض كلمتها او نظامها او ديمقراطيتها وقيمها على كل شعوب الارض؟

اما الحرب الثالثة فهي تلك التي تدور ـ ولو بشكل فاتر او بارد ـ داخل الدول العربية والاسلامية حول القتال الناشب في العراق ومآله، وحول موقف الانسان العربي والمسلم من الولايات المتحدة ومن الانظمة الحاكمة له ومن العالم والعصر اللذين يعيش فيهما. لا شك ولا خلاف على ان الانسان العربي والمسلم يعارض الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على العراق، ولا يستثنى الذين يعارضون ويكرهون صدام حسين ويعتبرون ان دكتاتوريته الحقت بالعراق وبالامة العربية خسائر واضرارا هائلة. ان الضمير العربي الواعي يتمنى وقف القتال وقيام نظام حاكم في العراق غير نظام صدام حسين. ولكن كم تبدو هذه الامنية صعبة التحقيق، اليوم.

ان الاندفاع العاطفي لنصرة بلد عربي يتعرض لهجوم عسكري امر طبيعي. ولكن تلبية هتافات الجماهير العربية من قبل الحكومات العربية (حتى التي اتخذت موقفا صريحا ضد واشنطن)، من شأنه زج الدول العربية والاسلامية في حرب عالمية ضد الولايات المتحدة، وهذا ما تريده وتسعى اليه اسرائيل منذ سنوات، وعلى الاخص منذ بروز الدعوة السياسية الاسلامية الرافضة لها.

لقد تعرض الانسان العربي، عام 1948 وعام 1967 الى هزيمتين، بل نكبتين عسكريتين، اعقبتهما انقلابات وثورات ودكتاتوريات عقائدية وعسكرية، بسبب خوض الدول العربية حروبا لم تستعد كفاية لكسبها، سواء اقدمت هي على الحرب ام جرتها اليها مؤامرات دولية ـ اسرائيلية. ومن الحق والواجب الاعتراف بان الشعوب والجماهير العربية كانت عشية نكبة 1948 وهزيمة 1967، مقتنعة بان على دولها خوض الحرب وبأنها قادرة على كسبها. ولم تجرؤ الحكومات العربية على الاعتراف بالحقيقة لشعوبها. صحيح ان تأييد الهجوم الاميركي ـ البريطاني على العراق حرام على الانسان العربي والمسلم. ولكن دفع الدول العربية الى حرب مفتوحة ضد الولايات المتحدة، وتحويل المعركة الى حرب حضارات بين المسلمين والعالم، خطأ بل مغامرة جنونية وحرام ايضا. صحيح ان الرفض والمقاومة مواقف وطنية وبشرية وعقائدية مشروعة، ولكن العمل السياسي لوقف الحرب ولتغيير الستراتيجية الاميركية، وتغيير النظام في بغداد، هو الحل وهو الطريق، ثم ان شعور الاخوة والتضامن مع الشعب العراقي لا يقتصر على الالتحاق بالمقاومة والتصدي للآلة العسكرية الاميركية بعمليات استشهادية، تؤذيه ولكنها لا تحسم الحرب، بل يكون ايضا بانقاذ الشعب العراقي من الموت وانقاذ كل البنى التحتية العراقية من التدمير. ان العراق مدين، اليوم، بعشرات المليارات وبعد انتهاء الحرب وايا كانت نتائجها العسكرية والسياسية فإن اعادة ترميم وبناء وتأهيل العراق للحياة، سيكلف مئات المليارات. فهل تجنيب العراق كدولة وكشعب كل هذه الخسائر، وهي خسائر عربية واسلامية ايضا، لا يستحق التوقف عندها والتساؤل عن افضل طريق لتلافيها؟

نعم، انه من الصعب احيانا، التوفيق بين صوت العقل الهادئ وصخب العاطفة الثائرة. بين صوت الحكمة وصوت الضمير وصوت القلب. ولكن الصدق مع النفس ومع الآخرين، يبقى افضل من الكذب والمواربة، كما ان حل النزاعات بالوسائل السلمية يبقى افضل من استخدام القوة. واذا كان من حق العراقيين ان يدافعوا عن ارضهم وبلادهم والعرب والمسلمين والشعوب الاخرى، ان يشجبوا الهجوم الاميركي وان يطالبوا بوقف الحرب وتجنيب العراقيين ويلاتها، فإن من حق العراقيين ان يحرروا بلادهم من حكم صدام حسين ومن حق الانسان العربي الواعي ان يرفض جر الدول والشعوب العربية والاسلامية الى حيث تريد جرها الجماعات المتطرفة العربية والاسلامية من جهة واليمينية المتصهينة الاميركية واسرائيل من جهة اخرى، اي الى مجابهة عربية ـ اسلامية ـ اميركية عسكرية شاملة.