..وللجنرالات هواياتهم الخاسرة أيضا

TT

مر اسبوعان على الحرب على العراق والقوات الاميركية والبريطانية لم تدخل بغداد بعد، ربما لان الخطة الاصلية التي وضعها البنتاغون بالاشتراك مع تومي فرانكس قائد القيادة الوسطى لم تكن ملائمة للحرب في ظروف جديدة تتغير آنيا مع مجريات العمليات في ساحة القتال.

لكن من الاسباب الاخرى ايضا ان الجنرالات الاميركيين شأنهم شأن البشر العاديين لهم افضلياتهم وهواياتهم التي تطغى عادة على الواقع وما هو مطلوب تحديدا لخوض غمار الحروب المقبلة التي بدأنا نرى نذرها الآن. فعلى صعيد المعدات مثلا، فان المخططين في البنتاغون استنفدوا معظم الميزانية العسكرية المقبلة على معدات براقة باهظة الثمن متطورة تقنيا، لكنها ليست عملية بتاتا، اي لا تفيد لا من بعيد ولا من قريب، كما برهنت الاحداث الحالية حتى الآن.

من هذه المعدات مثلا المقاتلة الجديدة «ليبتور اف ـ 22» التي لم تدخل الخدمة الفعلية حتى الآن، والتي يبلغ ثمن الواحدة منها 80 مليون دولار. وكانت كلفة تطويرها نحو 30 مليار دولار لانها محملة بآخر الصيحات التقنية التي لا تخطر على البال. وهي تعني الكثير إن كان الهدف منها محاربة روسيا مثلا، او دولة من منظمة حلف شمال الاطلسي، وهي البلدان الوحيدة التي تصنع مقاتلات متطورة قريبة منها. وقد باتت هذه المقاتلة الجديدة الخفية التي لا يكشفها الرادار حبيبة العسكريين ورجال البنتاغون الذين يتغنون بجمالها ومزاياها، مثل التغني بجمال حسناء لعوب. وهي رغم قوتها وسرعتها، فانها قصيرة المدى لا تقطع اكثر من 1126 كيلومترا من دون التزود بالوقود. ومثل هذه المقاتلة المتطورة لا تعني شيئا في حرب العراق ولا تصلح لها. اذ بمقدور اي مقاتلة اخرى، وإن كانت اقل منها في المزايا والقدرات ان تقوم مقامها في ضوء غياب الطيران العراقي، في الوقت الذي كان فيه الاميركيون في امس الحاجة الى اعداد كبيرة كافية من طائرات النقل العسكرية الثقيلة مثل «سي ـ 17» القادرة على قطع مسافات شاسعة والهبوط في مدارج متقدمة غير ممهدة محملة بالجنود، فضلا عن الاسلحة والمعدات والذخائر. فهي تستطيع ان تشكل جسرا جويا طويلا يغني واشنطن عن المطارات التركية مثلا. غير ان المشكلة ان رجال البنتاغون لا يحبون هذا النوع الثقيل من الطائرات البطيئة نسبيا، ويفضلون عليها المقاتلات الرشيقة السريعة الشبيهة بالسيارات الرياضية، وإن كانت ليست هناك حاجة اليها مطلقا في ضوء حروب اليوم، وربما يصب هذا الامر في مصلحة العراقيين.

والذي يراقب حرب العراق الآن يمكنه ملاحظة كم كان البنتاغون حريصا على اظهار قدرته في استخدام الاسلحة الذكية ذات التقنيات العالية، لكنه كما يبدو لاحظ مدى اعتماد المستقبل على القدرة في خوض الحروب البرية ضد الجنود المدربين على حرب المدن والعصابات، وبالتالي القدرة على احتلال القرى والدساكر بدلا من الاعتماد على القصف الجوي فقط.

ما اشبه اليوم بالامس. فمن يتذكر حرب فيتنام في الستينات يذكر كيف استطاعت دولة بعيدة جدا عن العلوم والتقنيات، وبأسلحة بدائية بسيطة، الحاق الهزيمة بأكبر قوة على الارض، رغم الغارات الجوية المدمرة التي كانت تقوم بها قاذفات الـ«بي ـ 52» ومقاتلات «الفانتوم ان ـ 4» التي كانت تحرث الارض بمئات الاطنان من القنابل يوميا لان واشنطن فشلت في تحشيد قوات ارضية كافية خبيرة في حرب الادغال والمستنقعات.

ومع ذلك لم يتعلم البنتاغون درسه وما زال حتى اليوم يشتري الاسلحة والمعدات المعقدة غير التقليدية التي لم يعد لها دور في ظل غياب قوى مثل الاتحاد السوفياتي السابق، بدلا من الاسلحة البسيطة العملية باعداد كافية والتي تصلح لمسارح العمليات في العالم الثالث.

من هنا فان سلاح الطيران الاميركي بحاجة اليوم الى طائرات الشحن الثقيلة التي لا تحظى بأي شعبية لدى الجنرالات والقاذفات البعيدة المدى، والى المزيد من حاملات الطائرات التي تغني عن القواعد المتقدمة في البلاد الاجنبية. ثم ان الجيش الاميركي بحاجة هو الآخر الى المزيد من طائرات الهليكوبتر الناقلة للجند، والى الدروع التي كان يفكر المخططون العسكريون الاميركيون في الغائها يوما.

لقد تعلم البنتاغون درسا قاسيا في العراق رغم ان الحرب ما زالت في بدايتها كما يبدو، لكن تطبيق هذه الدروس وتحويلها الى وسائل عملية يحتاج الى عشر سنوات من الآن على الاقل. وهذا يصب ايضا في مصلحة العراق، وإن كان لا يعني ذلك بالضرورة انتصاره في نهاية المطاف.