إجراءات لحماية سيادة العراق

TT

بينما لا احد يدري كيف ومتى ستنتهي الحرب في العراق، هناك ثمة شيء واحد مؤكد وهو انه بسقوط النظام البعثي في بغداد فإن العراق سيواجه فراغاً سياسيّاً.

ليس للرئيس العراقي صدام حسين الآن سيطرة فعلية الا على نحو 5 في المائة من الاراضي العراقية، وليس في مقدرة نظامه القيام بالمهام المعتادة التي تؤديها الحكومات.

وتشير كل الدلائل الى المزيد من التشدد في ادارة بوش لصالح اقامة حكم امريكي مباشر على العراق لخمس سنوات على الاقل.

وبالرغم من ان وزارة الدفاع الامريكية ليست حريصة على اقامة حكم مباشر على العراق الا ان اطرافاً اخرى من الادارة الامريكية تفضل ذلك الخيار، بما فيها وزارة الخارجية ومجلس الامن القومي. ويؤيد خيار الحكم الامريكي المباشر ايضاً بعض كبار الخبراء الامريكيين في شؤون الشرق الاوسط مثل فؤاد عجمي ووليد فارس بوصفه الخيار الافضل للشعب العراقي. وحجتهم في ذلك هي أن الولايات المتحدة لم تستمر قط كقوة احتلال لأيّ بلد استولت عليها، لمدة طويلة، وأنها في النهاية تترك هذه البلدان اكثر رخاءً واكثر ديمقراطية. والامثلة التي يوردونها هي الفيلبين التي استولت عليها الولايات المتحدة من اسبانيا، وفي ما بعد، المانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية. وعموما فإن الولايات المتحدة تدخلت عسكرياً في 66 بلداً خلال مائة سنة لكنها لم تحاول استعمار ايّ منها.

وتضيف الحجة ايضاً أن المعارضة العراقية تحتاج للوقت لتقوم بتنظيم نفسها، وتتعلم ان تعيش وتعمل مع بعضها البعض وتطور ثقافة الديمقراطية والتحرر وحقوق الانسان.

ولكن سيناريو الحكم المباشر قد يكون وصفة كوارثيّة بالنسبة لجميع المعنيين بالشأن العراقي. فبادئ ذي بدء يمكن ان يؤدي الحكم الامريكي المباشر الى انقسام اطراف التحالف. لقد اوضحت بريطانيا واسبانيا واستراليا وعدد آخر من اعضاء التحالف الآخرين انهم لن يقبلوا بحكم عسكري اجنبي مباشر طويل الامد في العراق، والحد الزمني المحدد الذي قد تتقبله لحكم مباشر هو 18 شهراً.

ثم انه لا يبدو أن الرأي العام الامريكي سيقبل حكماً عسكريّاً في العراق حتى لمثل هذه المدة. وخلال عدة زيارات قام بها كاتب هذه السطور خلال الاشهر الاخيرة السابقة لم يعثر على مستوى ملحوظ من التأييد لحكم عسكري امريكي في بغداد.

لكن قلة امريكية هي التي ترغب في أن تتولى امريكا تسيير الامور في العراق.

إن حكماً عسكرياً امريكياً طويل الامد في بغداد قد يجد ايضاً العداء من جيران العراق خصوصا تركيا وايران، والدولتان يمكن ان تتسببا في ازعاج وتهديد وحدة اراضي العراق وسيادته الوطنية.

والاكثر اهمية من ذلك هو انه لا يوجد دليل على ان اغلبية العراقيين سترحب بحكم امريكي حتى ولو لمدة 18 شهراً. إن جيشاً للتحرر قد يتحول الى جيش احتلال في الوقت نفسه تقريباً.

ما العمل؟

إن التحالف والمعارضة العراقية، التي بدأت بعض اطرافها الآن في تأكيد وجودها داخل البلاد، يجب ان يلتقيا سريعاً لمعالجة هذا الموضوع.

هناك اهمية كبيرة لانشاء مجلس عراقي للسيادة الوطنية في اسرع وقت ممكن. ويستطيع مثل هذا المجلس تمثيل استمرارية الدولة العراقية، ويحول دون اختفائها حتى لفترة وجيزة من الزمن، ويؤكد ان هناك صوتاً عراقياً يسجل حضوره حيثما واينما تطلّب الامر ذلك. ويحافظ المجلس على العلم الوطني العراقي يرفف خفاقاً فوق اروقة الامم المتحدة والجامعة العربية ومنظمة الدول المصدرة للبترول(أوبك) ومنظمة الدول الاسلامية، ونحو 80 منظمة عالمية اخرى يتمتع العراق بعضويتها.

ويمكن ان يصير المجلس محاوراً للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة حتى قبل نهاية الحرب للتأكد من عدم اتخاذ قرارات طويلة الامد تتعلق بمصير العراق من دون الاستماع لصوت عراقي.

يجب ان يكون واضحاً منذ البداية ان وظيفة المجلس هي في الاساس رمزية وقضائية وسيكولوجية، ولم يعمل بوصفه حكومة عادية، فحكومة كتلك يجب ان يتم اختيارها وتشكيلها بواسطة الشعب العراقي بعد فترة من التهيئة المناسبة. لذلك فإن من الضروري أن يتكون المجلس من اشخاص قادرين على الارتقاء فوق الانتماءات الحزبية، وهؤلاء يجب ان يكونوا اشخاصاً خالين من اي طموحات سياسية حزبية خاصة بهم، على الاقل في هذه المرحلة.

مثاليّاً، يمكن ان يتكون المجلس من 7 الى 9 أشخاص بما في ذلك ثلاث نساء. ويجب ان يعكس المجلس التنوع الغني للعراق ووحدته الراسخة. ويمكن أن يكون للشيعة والسنة المسلمين وللاكراد وربما للتركمان والكلدانيين ـ الاشوريين ممثليهم في المجلس معبرين على نحو تقريبي عن القوة العددية لمجتمعاتهم.

يمكن حينذاك أن ينال المجلس الاعتراف ليس فقط من جانب التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، ولكن من جانب الامم المتحدة ايضاً بوصفه الممثل الشرعي الوحيد للدولة العراقية. ويمكن بعدئذ أن يكون المجلس قادراً على اتخاذ خطوات ضرورية عاجلة، فيستطيع اولاً أن يضع وجود قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضمن اطار قانوني متفق عليه. وعلى التحالف ان يوقع اتفاقيات تنظم وجوده، مؤكداً انه سينسحب في اللحظة التي تطلب منه حكومة عراقية جديدة الانسحاب.

ويمكن للمجلس ايضاً أن يوضح جليّاً ان ايّ اتفاقات طويلة الامد يتم ابرامها باسم الشعب العراقي في غياب حكومة فاعلة تعتبر اتفاقات باطلة. وهذا امر مهم لمنع العصابات المتكاثرة التي تناور حول العراق على امل انتزاع عقودات بازخة خلال الاضطراب الذي قد يصاحب مرحلة ما بعد الحرب.

إن مخططي الولايات المتحدة كانوا واقعيين بالقدر الكافي للموافقة على قبول سيناريو اشبه بسيناريو افغانستان. فالحكومة التي نشأت في كابول لم تكن امريكية (مائة في المائة)، ولكن لذلك السبب، بالذات، فإن اغلبية الافغان لم يشعروا بصعوبة تذكر في التعايش معها. وعلى الولايات المتحدة ان تقبل محصلة شبيهة بذلك في العراق.

إن من خصائص الطبيعة البشرية الشعور بالاستياء من القوة الكبرى التي تتدخل في شؤونك، حتى لو كان ذلك بغرض حمايتك من براثن طاغية سفاح (هذا هو السبب في ان هناك معاداة اكثر للأمريكيين في فرنسا التي حررتها الولايات المتحدة أكثر مما في فنلندا التي لم تقم الولايات المتحدة نحوها بذلك).

إن كل هذا لا يعني أن تتجاهل الولايات المتحدة العراق بمجرد انهيار النظام، فالولايات المتحدة وحلفاؤها بتدخلهم في العراق ترتبت عليهم مسؤولية اخلاقية وسياسية. وهم بالتالي مطالبون بالوقوف الى جانب العراق لوقت طويل، ربما لسنوات، وذلك لمساعدته في بناء وتطوير مؤسسات جديدة والانضمام الى التيار الرئيسي لدول العالم. وذلك الدور يمكن ان تؤديه الولايات المتحدة على نحو افضل كصديقة للعراق وشريكة له وليس بوصفها حاكماً وسيداً عليه.