الحرب: الحقائق محاطة بأكاذيب أبريل

TT

«الحقيقة في زمن الحرب غالية جدا، بحيث يجب أن تحاط بحرس من الأكاذيب».

تعجبني سخرية تشرشل اللاذعة وأنا أسمع وأشاهد هذا السيل المتدفق من الأكاذيب في الحرب التي نعيشها. على أية حال، لم يكن تشرشل أو الانجليز أكبر «الكذابين» في أكبر حرب عرفها العالم، انما كان غوبلز وزير دعاية المانيا الهتلرية.

ظل غوبلز يكذب طوال ست سنين مبالغا بـ «الانتصارات» حتى عندما كان الروس يشقون طريقهم إلى قلب برلين. وأرجو أن لا تكون خاتمة سعيد الصحاف وزير دعاية صدام كخاتمة غوبلز الذي فضل الانتحار مع زعيمه هتلر.

وقد عرفت «كذابين» كثيرين في السياسة والإعلام. ولا أنسى المعارض الليبي الذي أكد لي في الرباط ذات يوم من أيام 1982، أن القذافي سيسقط خلال أيام. وكمثقفي الأكاذيب الذين نسمعهم هذه الأيام، فقد كان يدعم كذبه وتهويله بلقب «دكتور» يسبق اسمه.

كنت مبهوراً بالعراقي يونس بحري وهو يطلق صيحته التقليدية من إذاعة برلين: «حيِّ العرب». ولم أكن أفهم الأكاذيب التي يروجها بعد الصيحة، فقد كنت طفلا. لكن رجلاً آخر أكبر مني سنا التقطها «ليحيي» بها خصومه من الساسة اللبنانيين العروبيين عندما يلقاهم. فقد كان الشيخ بيار الجميل معجبا أشد الإعجاب بهلتر ويونس بحري. أكبر الكذابين، لا شك، هو أحمد سعيد. فقد ألحق هو والمشير عامر الهزيمة بإسرائيل منذ أول يوم من أيام حرب 1967. لكن غوبلز المصري تغفر له بلاغة تدفقه الخطابي، فيما لا أحد يباري سماجة غوبلز العراقي سوى مثقفي التحليلات الحربية في الإذاعات والتلفزيونات العربية.

الحرب العراقية الراهنة أكثر حروب التاريخ وضوحاً من حيث المشاهد وتدفق الأخبار، لكنها أشد الحروب ممارسة للتضليل والتفسير، وذلك لخدمة الحرب النفسية التي تزيدها سُعارا تقنية التغطية السمعية والبصرية المذهلة.

لماذا نكذب نحن العرب؟

لأننا مفصولون عن الواقع. لقد انفصلنا عن هذا العالم. بتنا منذ عقود طويلة تحت ركام ثقافة معادية للآخر ومبرئة للنفس والذات، ثقافة تفرضها أنظمة وأحزاب ودعاة ووعاظ وساسة ومسؤولون وتنظيمات وأجهزة إعلام ومخابرات.

نحن نمارس التحليل السياسي بالعاطفة المشدودة الى هذا الطرف أو ذاك. اننا نكذب كيلا نواجه الحقائق. العقل التسليمي انتظر معجزة إلهية تنصر طالبان على أميركا، فإذا بها تذوب خلال أيام ككرة ثلج منحدرة من جبال أفغانستان تحت حرارة الاختبار.

شكراً لصمود فدائيي صدام وتجميدهم للقوات الآنجلو ـ أميركية أمام مدن الجنوب والوسط عشرة أيام. فقد سمحوا لجهابذة المحللين الذين يديرون الحرب بالنظارات على الشاشات العربية ضمان «النصر المؤزر» لصدام. وشكرا للانتحاريين! فقد قتلوا بضعة أنفار أميركيين، وردت أميركا بقتل مئات المدنيين في قصف جوي أكثر وحشية، إلى درجة أن حلفاءهم الانجليز وجهوا اللوم إليهم، واتهموهم بعرقلة الجهود البريطانية لـ «أنسنة» حرب البصرة. وشكرا لكل من يحث صدام على «الصمود» الذي يتكفل بمواصلة إزهاق أرواح ألوف الأبرياء من العراقيين جنوداً ومدنيين. فما زلنا مصرين على تصوير حرب نظامه وكأنها حرب العرب أجمعين.

لقد كشف الصحاف وصدام بجلاء ووضوح، بالصوت والصورة، سذاجة تفكير قيادة عشيرية متخلفة في ثقافتها، وغير قابلة للحياة والاستمرار بعد هيمنة بسطوة الرعب المروع 35 سنة. وشكرا حتى للتلفزيون العراقي فمن خلال مشاهد الحرب تطل مأساة شعب عربي طيب. أيّ ألم يعصر القلب أمام وفرة القصور الرئاسية الضخمة الباذخة ووفرة البؤس والفقر والتخلف؟!

الانجليز والأميركيون ايضا يكذبون. أكتب هذه الكلمات وأنا لا أعرف من يحكم مطار بغداد؟ الجنرال الصحاف ينفي سقوطه. الجنرال تومي فرانكس يؤكد. المراسلون المرافقون للغزاة يخشون الرقابة العسكرية. يموهون ببراعة على الحقيقة. المساعدة الإنسانية كذبة كبيرة. مدن بلا ماء وكهرباء. أكياس المعونة موجودة في صور ومشاهد الدعاية. الحقيقة ان الأميركيين كانوا مشغولين أولا بتأمين المدد لقواتهم «المحاصرة» في المرحلة الأولى من الحرب.

أترك «الكذابين» يتبادلون أكاذيب ابريل، لأحاول رؤية وتفسير ما يحدث في الجبهة الميدانية. بعد النصر «التكتيكي» الذي حققته قوات صدام بتجميد وعرقلة تقدم الغزاة. فقد استعادت القوات الأميركية زمام المبادرة، بعد ما حسم الجنرالات «حربهم» مع وزير دفاعهم رامسفيلد ويهود البنتاغون.

غامر الجنرالات، ففكوا الحصار عن مدن الوسط والجنوب، منتهزين عدم قدرة قوات صدام على «تثبيت» نصرها التكتيكي ومواصلة مضايقة خطوط التموين، وفي غياب «جيش الوطن» الذي حيده صدام منذ حرب الكويت، فقد تمكن الأميركيون بفضل مدرعاتهم الأكثر قدرة على المناورة، من التقدم نحو بغداد عبر دجلة والفرات، محطمين فرق الحرس الجمهوري مسبقا بفضل القصف الجوي الذي لا يحتمل أمام غياب الغطاء الجوي للقوات العراقية.

لقد تخلف الانجليز في الجنوب بحجة محاصرة البصرة تاركين حلفاءهم يتحملون وحدهم خسائر الاندفاع. ويبدو أن القيادة العسكرية عملت على تفتيت ما تبقى من فرق الحرس الجمهوري وتوزيعها على كمائن أنزلت خسائر كبيرة بالأميركيين في قاطع دجلة.

لقد أحرق الأميركيون المراحل. وقفزوا إلى الأمام ليدشنوا معركة بغداد. كنت أحسب أن فرق الحرس الجمهوري (أربع فرق في جنوب بغداد) ستعيق وصول الغزاة إلى بغداد. وعلى أية حال، فالوصول لا يعني الاختراق. وأقدّر أن حرس صدام الخاص (15 ألفا) بالإضافة إلى الميليشيات وقوات الحرس الجمهوري تكفل الدفاع عن بغداد بقوة تتراوح بين 50 إلى 80 ألف مقاتل مزودين بوفرة السلاح، وربما بروح معنوية عالية. وقد قاموا بهجمات معاكسة، وردوا محاولات جس نبض أميركية في غرب المدينة بعد السيطرة على المطار.

حرب المدن تحقق، عادة، نوعا من التوازن والتكافؤ بين القوات المدافعة والقوات المهاجمة التي تملك تفوقا نوعيا مدرعا وجويا. المدن هي «بالوعة» الجيوش. ولن يكسب الأميركيون المعركة إلا إذا حدث انهيار معنوي ونظامي لدى قوات صدام، أو إذا حاكى الأميركيون الإسرائيليين في التوغل بالمدن المكتظة بالسكان بلا مبالاة بأرواح المدنيين، مع قصفها بلا رحمة أو تمييز من الجو.

لقد أظهر الشيعة تعقلا كبيرا، بل وطنية واعية، إلى الآن، في حرصهم على عدم التورط في القتال الى جانب الغزاة، على الرغم من تناقض فتاوى مرجعهم الديني «آية الله العظمى» علي السستاني. لكن الأكراد، مع الأسف، لم يكونوا على هذا المستوى من التعقل.

وأقول إن الأكراد يرتكبون خطأ كبيرا يذكّر بأخطائهم التي كلفتهم كثيرا في الماضي. فمشاركتهم مع القوات الخاصة الأميركية في مهاجمة الموصل العربية وكركوك النفطية تجعلهم «مرتزقة» في خدمة الغزاة. لا أدعي أنا ذلك، وإنما يقوله أحد القادة الأميركيين الذين يقودونهم: «عندما نقول لهم تقدموا فهم يتقدمون، عندما نقول لهم قفوا فهم يتوقفون»!

لقد فتح العرب قلوبهم لمصيبة الأكراد العراقيين بصدام. كرست الصحافة العربية صفحاتها لنشر مطالبهم ودعايتهم. الموصل تظهر مقاومة باسلة إلى الآن. لكن احتلالها تحت مطارق القصف الجوي لن يعرضهم إلى غضب العرب فحسب، وإنما لخطر مواجهة مع تركيا، ولا سيما أن الهالة التي تحيط بميليشياتهم كقوة نظامية، مبالغ بها جدا. لقد أسقط الجنرالات مبدأ رامسفيلد، وعادوا إلى العقيدة القتالية التقليدية باعتماد القوة المدرعة والكثافة البشرية والقوة النارية الهائلة للطيران. وهم ينتظرون تدفق الإمدادات التي تصل بمعدل ألفي جندي يومياً. ولعل ضراوة معركة بغداد مؤشر على رغبة الجنرالات في تأمينه لوصول الامدادات اليه مباشرة، بدلا من وصولها عبر الكويت، أو عبر الطريق الذي أغلقته تركيا.

خسر صدام زمام المبادرة في المرحلة الثانية. ربما يبقى رامسفيلد حاضرا معركة بغداد، لكن من المؤكد انه سيخسر منصبه إذا ما أصبح جورج دابليو رئيسا مرة أخرى. وما من أحد يسمع هذه الأيام في واشنطن نصيحة جنرال مصاب بالسرطان اسمه نورمان شوارزكوف: «التدمير الكامل للعراق ليس في مصلحة توازن القوى البعيد في هذه المنطقة».