المغادرون

TT

الخبر الاهم في اطلاق النار على موكب السفير الروسي المغادر من بغداد الى سوريا، ليس في ان بعض الديبلوماسيين قد اصيبوا، بل في ان السفير ـ او دولته ـ قرر ان يترك العاصمة العراقية. فعندما تقرر دولة، مثل روسيا، انه لم يعد مهماً بالنسبة اليها القول ان سفيرها اخلى موقعه ونقل معه حتى الصحافيين، فهذا نذير خطير: لقد بدأت معركة بغداد، ولا يمكن لأحد ان يتخيل كيف ستكون.

طرح المعلقون العسكريون افكاراً كثيرة حول معركة بغداد. البعض قال انها سوف تحاصر طويلاً قبل اي هجوم، كما حاصر الاسرائيليون بيروت العام 1982. وقال بعض آخر ان حصونها الرئيسية سوف تدك قبل محاولة الدخول. ولكن الاميركيين بدأوا العملية في المطار، الذي لم يقربه الاسرائيليون في بيروت خلال حصارها الطويل. والمتوقع الآن ان يلجأ الاميركيون الى الاساليب التي استخدمها الاسرائيليون في غزة ونابلس ومدن الضفة. اي الاقتحام بالدبابات مع مساندة جوية ومن طائرات الهليكوبتر، من دون الوقوع في حرب شوارع. ويقدم البريطانيون في شوارع البصرة نموذجاً للمعركة المقبلة في بغداد. اي البدء بمطاردة مسؤولي حزب البعث من اجل حث الناس على الاستسلام. غير ان الامر مختلف تماماً في بغداد: هنا يحتشد الوف الحزبيين واعضاء الحرس الجمهوري والقوات الخاصة من الجيش والمتطوعون ايضاً. والشعور بالدفاع عن بغداد هو غير الشعور بالدفاع عن البصرة او عن الناصرية. انه الشعور ـ او المشاعر ـ الذي يرافق المعركة الاخيرة وما سوف يؤول اليه المصير.

لكن المهم هنا لن تكون النتيجة بل ما قبلها. اي طبيعة ونوعية المعركة من اجل بغداد وبالتالي من اجل النظام. وقد كتبت في هذه الزاوية ـ مع الاعتذار عن التذكير ـ قبل اسابيع طويلة، بأن الابتهاج بمواقف فرنسا وروسيا والمانيا والصين، هو جزء من تخدير النفس التقليدي، لأن اياً من هذه الدول لن ترسل جندياً واحداً للقتال الى جانب العراقيين. انها دول لن تقدم للعراق ـ ولا لأحد ـ سوى الموقف المبدئي. وهذا بحد ذاته عظيم، لكنه لا يشكل شيئاً ولا يدفع عن العراق رصاصة واحدة. وفي نهاية المطاف يحمل السفير الروسي اوراقه وحقائبه ويمضي عائداً الى موسكو، من دون ان يودع احداً من المسؤولين.

لا وقت لدى احد للمراسم والادبيات. وعندما ذهب سفير الفاتيكان مؤخراً الى الخارجية العراقية، استقبله الحارس ضاحكاً، وقال له انه الرجل الوحيد في الوزارة المغلقة. انه الآن زمن الحصار. والدولة تنتقل في الشاحنات هرباً من القصف الاميركي. ومحمد سعيد الصحاف يعاند الزمان والامكنة في مؤتمره الصحافي اليومي، نافياً ما يعلنه الاميركيون، وموزعاً مع اخبار الحرب جملة من الهدايا والنعوت، فيها شيء من قديمه وفيها من جديد الرئيس صدام حسين عن «البطون المشوية».

تخطت الحرب اليوم، مرحلة التعابير الحادة. ودخلت «الحرب النفسية» مرحلة خطيرة للمرة الاولى، مع الاعلان عن مقتل علي حسن المجيد، احد اركان النظام ورموز قوته. ومنذ مغادرة السفير الروسي بدأ كل شيء في التسارع على كل الجبهات، او بالاحرى على الجبهتين الاساسيتين. بل على الجبهة الاخيرة، لأن الصحاف لم يترك اي شك في كلامه امس بأن الجبهة الوحيدة الباقية هي جبهة بغداد، وكأنه يلمح بصورة غير مباشرة، الى ان الجبهات الاخرى لم تعد قائمة.

منذ اللحظة الاولى كان كل شيء درامياً وعاجلاً في حرب العراق. الآن نحن في معركة بغداد. اي الفصل الاخير من الحرب. والفصل الاهم. والفصل الاكثر خطورة. معركة بغداد هي، تكرارا، معركة الشرق.