انفصام أخلاقي

TT

هناك هوة في اخلاقنا ومواقفنا كثيرا ما ترعبني وتقرفني، انها سقم مشاعرنا وعدم اكتراثنا نحو حياة الآخرين وهمومهم وشقائهم. بالطبع لسنا الوحيدين في ذلك. تشاركنا فيه كثير من الامم مع الاسف. اجد هذا العيب متركزا بصورة خاصة في المثقفين الذين غسلت الثقافة ادمغتهم ومشاعرهم الانسانية الفطرية.

اعود الى كلمة زميلنا احمد الربعي وسؤاله هل نحن مجانين؟ يرى علماء النفس ان العقل السليم يتضمن القدرة على التقمص في الاشخاص الآخرين فتتصور نفسك في مكانهم ومن ثم تتحسس مشاعرهم وافكارهم. العجز عن الحلول محلهم من مميزات السايكوباثيا والاختلال النفسي. ولكنني الاحظ ان اكثرنا عاجز عن ذلك. والآن يا استاذ الربعي ستجد جوابك.

يتغنى شعراؤنا وادباؤنا ومفكرونا بالعمليات الاستشهادية ـ الانتحارية ولكنني لم اسمع عن احد منهم بعث بابنه ليقوم بها. لي ولدي نايل. ما الذي سأقوله لو انه جاءني يوما وقال، بابا انا ذاهب للقيام بعملية انتحارية من اجل الوطن او الاشتراكية او اي شيء؟ هل سأقول له احسنت يا ابني اذهب وقم بذلك؟ اولا سأحاول ان اثنيه عن غرضه بشتى الذرائع؟ واذا لم اكن مستعدا لتشجيعه على الأمر، فكيف يجوز لي ان اشجع الآخرين عليه؟

هذا الرجل الذي فجر نفسه وقتل اربعة امريكان معه في النجف كيف افرح بما فعله واطلق اسمه على شارع في مدينتي؟ حياة بريئة ذهبت نتيجة حمق حاكم طائش. ما الذي نقوله لاطفاله الثلاثة وزوجته وكل ذويه واصحابه؟ الا ينبغي علينا ان نتقمص شخصياتهم ونتحسس آلامهم؟ وماذا عن الاربعة الشباب الامريكان الذين جاءوا ليقوموا بعملهم المطلوب منهم كجنود، وعملهم الذي اعتبروه حقا او باطلا يعني تحرير شعب مغلوب على امره من حاكم ظالم؟ الا يستحقون منا بعض العطف؟

النظام العراقي تسبب بموت نحو مليون مواطن نتيجة نزوات شخص واحد. في حلبجة فقط مات خمسة آلاف مواطن بالغازات السامة. مئات غيرهم لقوا حتفهم في السجون والتصفيات. كيف جاز للمثقفين العرب والمسلمين ان يدافعوا عن هذا النظام كيف يجوز لاي شخص ان يحث الشباب على التضحية بشبابهم من اجله وفي معركة يائسة نتيجتها معروفة مسبقا؟ كيف يجرؤ قادة هذا النظام على مطالبة الجمهور بالتضحية ولم يضح اي واحد منهم بقطة في هذه المعركة؟

التقمص الاخلاقي يقتضي منا ان نحل تصوريا محل اولاد كل قتيل ونسائه وامه واخواته وكل احبائه ونتصور الألم الذي يعيشونه بفقده ساعة بعد ساعة.

اتصلت بي قبيل الحرب الزميلة سوزانه طربوش تحثني على المشاركة في المظاهرات ضد الحرب. رفضت. قالت كيف وانت تؤمن باللاعنف والسلام؟ قلت لها لأنني لا اعتقد ان الجيش العراقي سيقاتل. اندلعت الحرب واذا بهذا الجيش يخيب ظني ويقاتل «طبعا لاسباب مختلفة» عملت تلفون لها وقلت يا سوزانه، هل هناك مظاهرة لوقف الحرب وسحب قوات التحالف؟ اريد ان اشترك فيها. ضحكت علي وقالت كيف؟ قلت العراقيون راحوا يقاتلون. اذا كانوا يريدون صدام حسين فمبروك عليهم. لماذا نفرض عليهم الحرية؟ اذا كانوا يحبون العبودية فألف مبروك. مثلما لا اريد لهم ان يموتوا من اجل الحرية، لا اريدهم ان يموتوا دفاعا عن العبودية، فليسحب الغربيون قواتهم ويتركوا العراقيين حبلهم على غاربهم. انا انسان ديمقراطي.

آسف ثم آسف. ولكنني اجد هذا الاستخفاف بحياة البشر، والمستضعفين من البشر بصورة خاصة، وبشقائهم ومعاناتهم وعذاب اهلهم وذويهم باسم القومية والوطنية والاشتراكية والديمقراطية والايمان واي شيء كان، امرا مقرفا عندي بل اجراما، ولا سيما عندما يأتي من اشخاص يعرفون جيدا كيف يصونون انفسهم من كل ذلك.