لذة الوهم.. وألم الصدمة

TT

اذا سألت صدام حسين: لماذا فعلت بالعراق ما فعلت؟ فانه لن يحار جوابا، بل هو قال ولا يزال يقول: لقد بنيت العراق أنموذجا للقوة والمنعة العربية ضد اطماع الصهيونية والامبريالية الاميركية. ولو سألت جورج بوش: لماذا تفعل بالعراق ما تفعل؟ فانه ايضا لن يحار جوابا، فهو زعم ولا يزال يكرر: انما اريد تحرير العراق من طغيان صدام حسين، ولا اسألهم عليه جزاء ولا شكورا!

كلاهما مخادع. ولكن الخداع ليس المشكلة، وانما المصيبة هي ادمان المخدوعين التلذذ به والاستسلام له.

قبل خمسة وثلاثين عاما، بلغنا ذروة نشوة الانتصار قبل اول طلقة، حتى اننا بدأنا نستعد لاستعادة فلسطين من الناقورة الى تل ابيب وصولا الى النقب، فاذا بنا نصحو وقد تمددت اسرائيل في اراضي ثلاث دول عربية بعدما هزمتها شر هزيمة في ستة أيام ما كان لها سابع. بكينا، لطمنا، ثم هدأنا. وحين نطقت، بعد ستة عشر عاما من الاحتلال الاسرائيلي المستمر، بكلمة (هزيمة) أمام نجم اعلامي ناصري كبير، فانه انتفض كمن لسعته افعى: هزيمة، أية هزيمة؟ وهل انت من القائلين بأننا هزمنا؟ لا، لا، لا، غلط، غلط، غلط!

انه ادمان خداع الذات، وصدام حسين ليس الا حلقة في مسلسل. بالطبع، بيننا من صدق صدام حسين بلا تردد، لهفة لرؤية فعل عربي مغاير لكل الخيبات المرة والمتواصلة منذ الاربعينات، وخصوصا بعد اشدها مرارة وصدمة، خيبة حزيران اياها. لكننا نسينا، ونحن نندفع في الانبهار بصدام حسين، كيف صدمنا انخداعنا بوهم سبقه. كلا، ليس جلدا للذات، بل مراجعة لها، املا في التوقف عن مخادعتها. الا يكف السادة، والسيدات، الذين يقولون انهم ضد القمع، عن قمعنا كلما قلنا كلمة نقد ذاتي؟ ألا يكفينا ان الانظمة تشهر في وجوهنا (سيف الوطنية) اذا اعترضنا، ثم تأتي الغالبية بين المثقفين والمثقفات لترفع في وجوهنا سوط تهمة (جلد الذات) اذا انتقدنا!

بعد هزيمة الايام الستة، أقر الجميع، قوميين واسلاميين وشيوعيين وليبراليين، بما خلاصته أن اصلاح الخلل يبدأ بالذات، الديموقراطية، المحاسبة... الخ، الخ. ثم، مرت بضعة اسابيع واذا بكل شيء كما كان (عادت حليمة لعادتها القديمة) ومن تجرأ فاعترض، نهروه: ازالة آثار النكسة أولا. ومن لم يرتدع، وبّخوه: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. اما من تمادى فكانت النار في انتظاره، وكان خزنتها رجال اجهزة لا تأخذهم بالهامسين اعتراضا شفقة ولا رحمة. فخاف معظمنا، وسكتنا.

ثم جاء صدام حسين، فتكرر المشهد، وتكررت المأساة. قيل لنا انه يبني البلد. صدقنا. قيل لنا انه متواضع لا يطمع في ثروة أو جاه. وافقنا. قيل لنا انه يحمي البوابة الشرقية للعرب في مواجهة الفتنة الخمينية. آمنا وأيدنا. يا للسذاجة. فجأة اتضح انه مقابل كل دينار انفقه صدام على تعليم العراقيين، أو صحتهم، او حتى جيشهم، كانت هناك خمسة دنانير مخصصة لأقبية التنكيل والتعذيب، وخمسة اخرى لخزنة جهنم التي أعدها لكل من قال (لا)، وخمسون للتماثيل والأنصبة التي زرعها في طول العراق وعرضه، ولو امتد به زمن الأمر والنهي لربما أمر ان تنتصب تماثيله في فناء كل بيت!

أهذا (مجاهد) ينتظر أن ينصره اله عادل لا يظلم أحدا؟ وهل خاف أركان حكمه الله في عباد الله حتى يرجى لهم النصر؟ أليست كلمة حق امام سلطان جائر من أعظم الجهاد عند الله؟! وماذا عن قيادات الخطاب القومي، والشيوعي، والليبرالي، لماذا يفزعون لمجرد التساؤل: لماذا أوصلنا صدام حسين الى هنا؟ وماذا سيقولون في تبرير الهزيمة الجديدة، غير تحميل المسؤولية لاميركا، ثم اميركا، ثم اميركا؟!

نعم، جورج بوش مخادع. نعم، هذه حرب لا احد يعلم أين وكيف ستنتهي. نعم، هي حرب اطلاق الهيمنة الاميركية. نعم، كل هذا صواب، ولا ينخدع بتبريرات بوش الابن، وسفسطة ريتشارد بيرل وبول وولفويتز، الا من يريد ان ينخدع بها. لكن، يا سادة يا كرام، يا معشر المثقفين والمثقفات، قوميين واسلاميين وليبراليين وشيوعيين، يا اهل اليمين والوسط واليسار، ألم يحن الوقت لمكاشفة مع النفس؟ ألا يكفينا تلذذا بخداع الذات للذات؟ حسنا، واصلوا اللعبة، اطمئنوا، ناموا في الوهم الذي تحبون. اياكم ان تصدقوا ان الطاغية هو الطاغية، من أي قوم كان ومن أي دين. استسلموا لوهمكم المقبل، الى ان تبكوا في كربلاء اخرى، بعد سنين!