أمريكا بين تحرير العراق واحتلاله!!

TT

قال السيد عمرو موسى أمين الجامعة العربية: إن العالم كله عجز عن منع نشوب الحرب على العراق وليست الدول العربية وحدها المسؤولة عن ذلك العجز.. وهو مُحق، لكننا نرى العالم كله يتحرك ويجادل حول مترتبات تلك الحرب لإدارة عراق ما بعد صدام. وحتى بريطانيا، الشريك الرئيسي في الحرب، تخوض صراعاً مكشوفاً مع إدارة بوش حول دور الأمم المتحدة في الوصاية على العراق، وفي وجوب أن توكل إدارته لأبنائه حال ما تضع الحرب أوزارها.

بل حتى الإدارة الأمريكية نفسها يحتدم بين اجنحتها الصراع خاصة بين وزارتي الخارجية والدفاع حول من يكون له النصيب الأوفى في الهيمنة على العراق. وكذلك الحال بتصاعد الجدال والحوار بين الدول الأوروبية الرئيسية وروسيا لتنسيق المواقف، وايضا في دهاليز الأمم المتحدة. والغائب الوحيد للأسف هو النظام العربي بكل مؤسساته وأطيافه، وهو غياب يشي باحتضار أكيد ناهيك من أن له ما يبرره.

ولو لم يكن الأمر هو احتضار النظام العربي، للمسنا على الأقل تفاعلاً مع وضد كل ما يثار في العالم حول مصير العراق ومستقبل الحكم فيه، فضلا عن رؤية أو رؤى متعددة من مشارب عربية متنوعة عن ذلك المصير، ولهذا فإن عدم المشاركة بأي رأي هو أمر يدعو للحزن واليأس والإحباط.

أو ليس من المعيب حقاً، أن لا نسمع رأياً رسمياً عربياً رافضاً لتولي الجنرال جي غارنر إدارة العراق بعد سقوط نظام صدام، بينما هذا الجنرال السابق يعد من أقرب المقربين لإسرائيل، وصحائفه المنشورة على الصحف الإسرائيلية تشي بأنه كان من أوائل الذين وقعوا عريضة تدين الانتفاضة الفلسطينية الراهنة لحظة اندلاعها؟!، أو ليس من المعيب أن نسمع ونقرأ تسريبات وتصريحات تشير إلى أن من أولويات النظام الجديد في العراق الاعتراف بإسرائيل وأن شركاتها سيكون لها نصيب في كعكة التعمير؟!، أو لا يحرك ساكنا في نظامنا العربي ما يتردد عن أن النموذج الذي ستفرضه الولايات المتحدة على العراق ستعمل على تعميمه في كل الدول العربية؟!، وهل يجوز أن نكون متفرجين في الصراع الدائر بين بريطانيا وأمريكا بينما الأولى تطالب بدور رئيسي للعراقيين والأمم المتحدة، وأمريكا تريده دوراً هامشياً للعراقيين، وفي حدود المسالك الإنسانية للأمم المتحدة؟!، أو ليس شيئاً مخجلاً ومحزناً أن تكون فرنسا وألمانيا وروسيا تجتمع وتنسق في كيفية مواجهة الطغيان الأمريكي المندفع نحو السيطرة الكاملة على العراق ونحن نتفرج وكأن العراق ليس جزءاً عزيزاً منا؟!.

وقبل وبعد كل هذه الأسئلة: ألا يرد على خاطر القائمين على النظام العربي أنهم سيواجهون بعد أيام أو أسابيع أسئلة كثيرة ومحرجة سيصعب عليهم الإجابة عنها ما لم يتداركوا ما فاتهم من قصور وتقصير ويعملوا على تلافي ما سيزيدهم شتاتاً. ومنها على سبيل المثال: كيف سيتعاملون مع الإدارة الجديدة في العراق ان كانت امريكية أو عراقية عميلة؟، هل سيعترفون بها ويمنحونها الشرعية ويتعاملون معها ديبلوماسياً.. إلى غير ذلك؟، أو لا يستدعي مثل هذا الأمر تدارسه عبر الجامعة العربية حتى تكون هنالك مواقف محددة وموحدة عوضاً عن ان يترك الأمر لابتزاز وضغوط الأمريكيين!.

بالطبع ما كان من الممكن إثارة مثل هذا السؤال لو ان النظام العربي بادر ببلورة رؤية محددة لما ينبغي ان يكون عليه وضع العراق واتصل بالجهات العالمية وخاصة بالادارتين الأمريكية والبريطانية وطرح تلك الرؤية ساعتها ما كان من الممكن تجاوزه، بل لعله كان سيجد الاصغاء والترحيب خاصة في خضم الصراعات الحائرة بين اجنحة الإدارة الأمريكية، وبين بريطانيا من جهة اخرى، علما بأن الحرب نفسها افتقرت للشرعية، ومن قاموا بها يبحثون عن مسالك يخففون بها من وطأة تجاوزهم للشرعية الدولية.

وحتى هذه اللحظة ما زال هناك متسع بسيط من الوقت لتجتمع القيادات العربية على رأي واحد حول كيفية حكم العراق بصورة انتقالية إلى أن ينتخب الشعب بإرادته الحرة حكومته وما لم يفعلوا ذلك فإنهم سينتقلون من الاحتضار إلى موت النظام!. من حق المرء أن يستغرب هذا الخمود من القادة العرب الذي لا يبدو ان هناك ما يبرره، لقد كان مفهوماً انقسامهم حول الوضع في العراق وحول النظام العراقي وكيفية معالجة أمره. أما وقد أصبحنا في مرحلة أوضاع ما بعد صدام، فإن المرء ليعجب من هذا السكون لأنه ليس هناك من لا يرى ضرورة وأهمية العراق وشعبه في المنظومة العربية، ولكون المنظومة العربية بدون العراق تبقى مشروخة ومهددة كلها بالخطر. إذاً لماذا لا يستشعر الجميع مسؤولياتهم وينهضون بما يجب عليهم أن يفعلوه لقاء المحافظة على العراق شعباً وتراباً وثروة؟، لا اعتقد ان هناك بينهم من يريد أو له مصلحة في تمزيق العراق أو إهدار نسيجه وثروته أو تطفيف وزنه أو جعله نهباً للطامعين، ولذلك لا مناص من هبة سريعة لاحتضان العراق سواء بضخ الدماء في شرايين النظام الذي يحتضر أو من أجل صياغة نظام عربي جديد، وليس هناك افضل من هذه الساعات للتسارع نحو هذا الهدف العظيم. وفي هذا السياق هناك الكثير الذي يجب ان تقوم به القيادات العربية في مسالك متعددة، فمنهم من يقع على عاتقه مصارحة الولايات المتحدة بحكم ما تبقى من أواصر العلائق معها بأنها يجب ان تلتزم بآخر شعاراتها وهو تحرير العراق.. لأن تحريره لا يعني فرض قيادة أمريكية لحكمه، ولأن تحريره لا يعني احتكار الشركات الأمريكية لإعماره أو التصرف في أموال نفطه كأوصياء، ولكون التحرير لا يعني إلزام العراق بالتعاون أو التحالف مع إسرائيل، ولا شك ان مثل هذا الإلزام يؤكد مصداقية ان هذه الحرب أديرت لتحقيق المصالح الإسرائيلية، علماً بأن مثل ذلك الإلزام لن يقبل به شعب العراق وستترسخ لديه القناعة بأنها حرب احتلال لا تحرير!، ولا شك ان الولايات المتحدة لو قبلت هذه المصارحة وأقامت وزناً للعلاقات والمشاعر العربية، فإنها ستسترد شيئاً من مصداقيتها وتحافظ على ما تبقى من جسور مع العالم العربي. وكذلك فإن على بعض القيادات العربية أن توسع من دائرة تواصلها مع أطراف المعارضة العراقية، وأن تتبنى دعوتها وتجميعها بغرض التفهم والتفاهم في إطار البيت العربي الكبير حتى يكون هناك التواصل المطلوب الذي يحقق بدايات جديدة لا تسمح بفرقة عربية أو لآخرين الحيلولة دون تضميد جراح الأمة العربية والاستفادة من خلق تشقق جديد في صفها.

ان هذه التحركات العربية العاجلة التي نطالب بها يمكن ان تتم عبر كل القنوات المتاحة، ومنها الجامعة العربية ومنها منظومة دول مجلس التعاون الخليجي، وكذلك المحاور العربية التي تتفق بينها الرؤى، وتتلاقى القيادات من حين إلى آخر، وكذلك عبر مبادرات فردية. المهم أن تسابق القيادات العربية الزمن وترمي بثقلها في الساحة العالمية السياسية حتى يسمع للعرب صوت ويسجل لهم موقف ويتحقق لهم أثر في أمر يخصهم قبل غيرهم.

وبما أن القضية العراقية ليست بمعزل عن قضيتنا الفلسطينية، فينبغي ان نطالب أمريكا بأن تصدق وعدها هذه المرة بتطبيق خريطة الطريق الاّ تسمح لشارون بطمسها عبر ما تردد عن تعديلات وما تثيرهُ حكومته من هجمات على رئيس الحكومة البريطانية لأنه بدا أكثر التزاماً بها من حكومة بوش. وهذه المرة لن تخدعنا مسالك ترحيل الوعود بادعاءات الانشغال بدنو الانتخابات الامريكية او غيرها، فإن كل مصداقية أمريكا على المحك الأخير مثلما أن سمعتها تدنت إلى ما لا تحتاج إلى التذكير به!.