الفضائحيات العربية

TT

قبل سنوات قليلة دخل الأمريكان الى قلب اوروبا وأسقطوا حكم الطاغية المنتخب سلوبودان ميلوسيفيتش بمباركة عربية واسلامية وقبل ذلك ازال الامريكان حكم الطالبان في قلب آسيا ومثله حكم نورييغا وسط الامريكتين كما ساعدوا جيران الطاغية موبوتو على اسقاطه في قلب افريقيا ولم تحتج شعوب الدول المجاورة لتلك الأنظمة الديكتاتورية او المتخلفة ولم يدع مثقفوها او مفكروها كحالنا بأن الامريكان قدموا لاحتلال تلك البلدان وسرقة ثرواتها وان الدور قادم على من جاورها لانهم يحترمون العقول ولا يسعون لدغدغة المشاعر ولعلمهم بعدالة قضايا اسقاط الطغاة وحقيقة ان امريكا ـ وبعكس الاستعمار القديم ومثله الوجود السوفييتي في بعض البلدان ـ لا تفقر الدول التي توجد بها بل على العكس تغنيها عبر فتح الاسواق لمنتجاتها وتصدير التقنيات الحديثة لها كما جرى مع دول شرق اسيا واليابان والمانيا... ان معلومات كهذه لا يسمح بتداولها على فضائحياتنا العربية التي تفتقد كذلك لأمور وقضايا عدة تستحق تسليط الضوء عليها ومنها.

اولاً، ان الحرب القائمة لها اسبابها المشروعة والموضوعية، فلم يكن هناك مبرر على الاطلاق لرفض نظام صدام للقرارات الشرعية كما الحال في القرار 1441 المتفق عليه وضمن ذلك المنطق غير العاقل والمفهوم دعوة القيادة العراقية بأن تكون الحرب قائمة على تخوم العاصمة بغداد التي هي الأسوأ تأهلا لأسلوب حرب المدن، فشوارعها واسعة فسيحة وليست كحال حي القصبة الجزائري، كما ان مبانيها لا تزيد في الاغلبية المطلقة عن طابقين بعكس مدينة بيروت وبذا ضحى القائد بـ99% من الارض بشكل مسبق كما ابقى الجسور قائمة على الانهار مما سهل وصول قوات الحلفاء بأسهل الطرق وبكامل العدة الى مقاصدها... واخطاء الطغاة الكبار.. كبار...!

ثانياً، سيحكم التاريخ لا غيره حول ما اذا كانت هناك مقاومة شعبية عراقية شاركت بها اغلبية الناس للقوات القادمة للتحرير، ام ان من قاوم كان جيوبا صغيرة مرتبطة بالنظام سميت بفدائيي صدام لا بفدائيي العراق، كما سنعرف بعد حين هل كانت هناك حقاً عمليات استشهادية ام ان ما رأيناه عمليات مخابراتية خداعية فخخت من خلالها سيارتان دون علم اصحابهما وفجرتا عن بعد الاولى لم نشاهد من خلالها الشريط الوصية المعتاد للانتحاري المزعوم والثانية شاهدنا شريطا لفتاتين الا ان شهود عيان الحادث ذكروا بأن السيارة التي فجرت عن بعد كانت تحمل رجلاً وامرأة حاملاً وطفلاً...

ثالثاً، ومن المحزن جداً ما رأيناه على الفضائيات الغربية من فوارق شاسعة بين مستوى معيشة الشعب العراقي من اقصى الجنوب الى اقصى الشمال وبين الحياة المترفة جداً لقصور الرئيس صدام وما حوته من صنابير وأجهزة مصنوعة من الذهب الخالد وأرضيات من الرخام والغرانيت والمرمر...

رابعاً، ان اشكالية توجه الفضائحيات العربية الحالية انها تشبه الحافر بالحافر اذاعات الستينيات في رفعها سقف الاماني والآمال العربية دون حقائق تدعمها على الارض كما يشبه اعلام محمد سعيد (الصحاف) اليوم اعلام احمد سعيد بالأمس، وقد كان بامكان بعض الفضائيات العربية وخاصة الجديدة منها ان تلعب دور اذاعة BBC آنذاك التي ثبت صدق توجهها في عرضها للحقائق ومن بقي معها العرب منذ ذلك اليوم حتى الآن ومن ثم تكون المحطة الجديدة الاولى في اظهار الحقيقة والتبصير بدلاً من ان تكون الثالثة او الرابعة في نهج التحريض والتثوير.

خامساً، ان تعسف بعض ساستنا ومفكرينا بالعداء لأمريكا التي نتفق جميعاً على خطأ دعمها لاسرائيل الا ان لديها بالمقابل كثيراً من الامور الموحية تجاه الدول العربية والاسلامية من المحيط الى الخليج بل وللسلطة الفلسطينية وللشعب الفلسطيني المقهور سيجعلنا نهديها وبأرخص الاثمان لاسرائيل، كما ان موقف هؤلاء من الكويت عام 91 تسبب بمواقفها الحالية فان مواقفهم من تحرير العراق هذه الايام سيؤثر كثيرا على مواقف القيادة العراقية القادمة ومثقفيها ومفكريها، وستسأل طغمتنا المفكرة الحالية آنذاك وبسذاجة او بلاهة شديدة عن اسباب تلك المواقف العراقية... المختلفة...!

سادساً، ومما لاحظناه ان تحليل المعارك وسير الاحداث على الفضائيات الغربية يتسم بالموضوعية الشديدة رغم ان المحللين هم في نهاية المطاف امريكان وانجليز لهم مصلحة في انتصار بلدانهم، اما محللو الفضائحيات العربية من «ساسة وعسكر» فيمزجون آراءهم الشخصية والخزعبلات كي يخرجوا في النهاية بنتائج تحول الانتصار الى انكسار والهزيمة الساحقة الى فوز ماحق مع ملاحظة ان مراسلي الفضائيات الاجنبية يبثون من الخنادق وقرب دخان المدافع والبنادق وهم يرتدون قمصان خفيفة بينما يبث مراسلو الفضائيات العربية من شرفات الفنادق وهم... بكامل ملابسهم العسكرية..!!

سابعاً، هناك مثل صيني يقول «خير لك ان تصمت ويعتقدك الناس احمق من ان تتكلم وتثبت لهم ذلك.. هذا المثل ينطبق تماماً على بعض القيادات العسكرية العربية المجففة التي لم تكتف باصابتها امتنا بالنكبات والنكسات والهزائم عندما كانت في مواقعها ومناصبها العسكرية فأبت الا ان تظهر على الفضائيات العربية وتتحفنا بتحليلاتها الخاطئة والمغلوطة.

ثامناً، وفي رأينا ان مؤتمرات وزير الاعلام العراقي المهددة والمتوعدة ومعها تحليلات الساسة والعسكر المغلوطة توازي مع بعض المظاهرات مدفوعة الثمن هي بهارات طبخة الحرب التي يستمتع بها المنتصرون والمراقبون... ومن يأكل طبخة لا بهارات فيها؟ او يستمتع بمباراة كرة قدم بين المانيا و... جزر القمر.؟!

تاسعاً، ومن يسأل بسذاجة عن سبب عدم قيام ثورة في الجنوب عليه الا يقف فقط عند تجربة 91 بل يذهب الى ما قبل ذلك عندما كانت ايران تقتضم ولسنوات طوال خلال الحرب الاراضي العراقية متجهة الى بغداد لاسقاط الحكم وقد انضم كثير من العراقيين لها وانشأوا الجيوش الموالية كفيلق بدر في الجنوب، واستضاف شمال العراق كافة الوان طيف المعارضة العراقية وفجأة وخلال ايام قليلة وعبر استخدام اسلحة الدمار الشامل انتصر صدام وتبع ذلك قتل 180 ألف عراقي في الشمال كما اعاد النظام الكرة عقب هزيمة تحرير الكويت وقتل ما يقارب 150 الفا في الجنوب ومن ثم اصبح من الاستحالة رهان الاهالي على خيار الثورة هذا عدا ان مناشير وتعليمات القوات المتحالفة طالبت الاهالي بالتزام المنازل لا الثورة في الشوارع.

عاشراً، وقد يكون من الصعب هذه الايام فهم مواقف دول ثورية تتدثر برداء القومية العربية في وقوفها مع النظام في العراق بحجة مقاومة الاحتلال الاجنبي الهادف لتغيير النظام وهم من دعم لسنوات طوال احتلال اجنبي لدولة «غير عربية» لأرض العراق الهادف لتغيير نظام حكمه وزودوها بالصواريخ التي دكت المدن والقرى العراقية دون تمييز لعدم دقة الاصابة فيها... هل يفرق المواطن العراقي جنسية الصاروخ الذي يسقط على منزله؟! وأليس من الاجدى والاجدر ان يرسل المتطوعون لتحرير ارض عربية قريبة طال امد احتلالها من عدو محتل لا يزيد عدد سكانه عن 4 ملايين بدلاً من ارسالهم بعيداً لمحاربة أمم يقارب عدد سكانها 400 مليون.

احد عشر، ومما اصبح حقيقة جلية لا يعترف بها الحالمون من خبراء الفضائيات العربية ان بغداد ليست ستالينغراد فقد وصلت القوات الحليفة الى قلبها دون مقاومة تذكر في وضع حير المراقبين الاجانب كحال المحلل العسكري لمحطة الـ«بي. بي. سي» وقد تتحول بالمقابل الموصل او تكريت لقندهار العرب قبل الاختفاء النهائي للقيادة العراقية فقد تحول الهرب لدى العرب بعد احداث افغانستان الشهيرة من نصف المرجلة الى.. كل البطولة...! واسألوا مؤيدي ملا عمر وصحبه..!

اثنى عشر، علمتنا نكبتنا الكبرى في فلسطين والهزائم اللاحقة المتلاحقة بأن الاعلى صوتا وتحريضا قد يكون الاكثر تآمراً وضرراً بالقضايا التي يتبناها، لذا نسأل المتباكين على النظام العربي ومؤسساته القائمة: لماذا تبنيتم وروجتم لاطروحات القلة الثورية المحرضة التي اوصلت الامور الى الحرب القائمة وتخليتم عن المبادرات العربية العاقلة والحكيمة التي كانت تمثل الاغلبية والتي كانت السبيل الوحيد لتفادي تلك الحرب... بودنا حقاً ان نصدق الدمع المنهمر من مآقيكم على الفضائيات العربية لولا رؤيتنا ما تفعله ايديكم ومواقفكم المتطرفة المصطنعة بأمتنا العربية.

ثالث عشر، ومن المهازل على الفضائحيات ما نراه من تغيير الخطاب والتحليل العسكري بتغيير المحطة، فلكل فضائية مقام ومقال، ومن يرد دعاوى النصر يزود بها وبأسبابها واذا ما قيل عكس ذلك في محطة اخرى وافق نفس المحلل دون ان تحمر له وجنة او يرف له جفن. ومثل ذلك ما قرأناه لمن يجلسون على الارصفة في مغارب الارض يلوموننا في الكويت لأننا لم نصحح معلومة اوحيت لهم او تنزلت عليهم من شياطينهم بأن الصواريخ التي سقطت على اسواقنا هي صواريخ امريكية (!!) وليست سلك وورم عراقية كما شاهدناها بأعيننا المجردة.. وهزلت..!!

اخيرا وتتبقى امنية خاصة مني لرجال الرئيس صدام، ارجو ان يحققوها، وهي ان يتوقفوا عن الهوسات وقفزات وصيحات الحرب التي تنتهي دائماً وأبداً بنتائج غير محمودة، فالأمم المحاربة الحقيقية كالالمان والانجليز واهل اليابان والامريكان لا تراهم قط يتنططون ويرقصون بسلاحهم، فقد استفردت بتلك الرقصات قبلنا امة الهنود الحمر... فانقرضت..!!