الأطراف الثلاثة في الحرب على العراق

TT

تبدلت الاستراتيجية الأمريكية تجاه العالم كله والعالم العربي بصفة خاصة، عند أربعة منحنيات، أولها الغزو العراقي للكويت في عام 1990، وثانيها الانقلاب السوفيتي على نفسه في عام 1991، وثالثها العدوان على أمريكا في عام 2001، ورابعها الحرب الأمريكية البريطانية ضد العراق في عام 2003.

الأخذ بهذه الرؤية للاستراتيجية الأمريكية، يجعلنا نلاحظ قيام كل هذه التغييرات تمت خلال فترة زمنية قصيرة، الثلاث عشرة سنة الماضية الممتدة من سنة 1990 إلى سنة 2003، بغض النظر عن أسباب هذه التغييرات الاستراتيجية ومحاولة ربطها بأحداث معينة تمثل انقلاباً في الفكر الإنساني على المستوى الدولي، فإن الرأي الراجح الذي نميل معه، يذهب إلى أن أمريكا نظمت لنفسها مساراً استراتيجياً مصطنعاً تستهدف به فرض سيطرتها الكاملة على العالم بعد أن تزيل من على هذا الطريق معوقات السير فيه بالتطاول على أحكام القانون الدولي العام وكسر الشرعية الدولية، واتضحت معالم رغبة واشنطون في فرض الهيمنة الأمريكية على الدنيا بأسرها من التناقض الفاضح بين الوعود التي يصدرها البيت الأبيض، وبين النتائج التي تتحقق فوق الواقع الدولي.

بعد تحرير الكويت من الاحتلال العراقي، صدرت وعود وعهود من أمريكا بتسوية عادلة للصراع العربي ـ الإسرائيلي، جعلت العرب يغضون الطرف عن الأدوار الأمريكية الرامية إلى سحب إدانة الجمعية العامة بالأمم المتحدة لإسرائيل بالدولة العنصرية، ليحصلوا في مقابل ذلك على الرعاية الأمريكية لمباحثات السلام، وجسد هذا الموقف العربي مؤتمر مدريد للصلح الإسرائيلي العربي العلني، واتفاقية اوسلو المبرمة بين الإسرائيليين والفلسطينيين السرية، لكن واشنطون أخلّت بالوعد والعهد بوقوفها المنحاز لأطماع اليسار الصهيوني الحاكم في تل أبيب جعلت عهد الرئيس السابق بل كلينتون راضخاً للإرادة الإسرائيلية، وأصيب العرب بإحباط ناتج عن فقدان الثقة في أمريكا، وترتب على ذلك تفجير الفلسطينيين انتفاضتهم ضد إسرائيل، بعد ان سدت في وجوههم كل سبل السلام معها، وزادت معدلات عدم الثقة في أمريكا بعد مشاركة واشنطون تل ابيب في دحر هذه الانتفاضة الشعبية الفلسطينية واتهام كفاحهم الوطني بالأعمال الإرهابية، وظل الوضع على ما هو عليه، بل وزاد سوءاً بعد وصول اليمين المتطرف إلى السلطة والحكم، وتربع على قمة هذا العدوان في داخل إسرائيل اريل شارون بدعم ومؤازرة من واشنطون.

لم تأت ثورة «البروسترايكا» لإصلاح وإعادة البناء التي نادى بها وقام بتنفيذها آخر رؤساء الاتحاد السوفيتي ميخائيل جورباتشوف نبتا شيطانيا في التربة السوفيتية، وإنما جاءت غرسة سياسية تحت مظلة الوعود والعهود التي قدمها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش ومن ورائه رؤساء الدول الأوربية الغربية، وكانت كلها تؤكد على رفع مستوى حياة الإنسان في روسيا والدول التي تقوم على انقاض الاتحاد السوفيتي الى مستويات حياة الإنسان في العالم الغربي، فلما انهار الاتحاد السوفيتي لم تف امريكا أو غيرها من الدول الأوربية بالوعود والعهود التي قطعتها على نفسها، واعتبرت واشنطون هذا الانهيار للاتحاد السوفيتي في نهاية عام 1991 انتصاراً لها في الحرب العالمية الثالثة الباردة، واخذت تطالب بتشكيل الحياة على الارض وفقا لهذا الانتصار الذي حققته امريكا، وهو ما نادت به كونداليزا رايس في أواخر عهد الرئيس السابق بل كلينتون ويطالب به اليوم كثير من المسؤولين في الإدارة الأمريكية.

هناك من يقول، من داخل أمريكا وخارجها، بأن ضرب نيويورك وواشنطون في يوم الثلاثاء 11 سبتمبر عام 2001، جاء لإثبات ان امريكا ليست القوة الفريدة في الارض او الدولة القطب التي يجب ان تلتف حولها وتدور في فلكها السياسي كل دول العالم، ويدللون على ذلك بقول جورج بوش، بعد اعلانه الحرب ضد الارهاب ان على العالم الاختيار بين موقفين اما ان يكون معنا ضد الارهاب، واما ان يكون ضدنا مع الارهاب، وفي هذا القول اصرار واضح على ان امريكا الدولة القطب واختيار دول العالم بإرادتها أو مرغمة على الوقوف في الصف الأمريكي ضد الإرهاب غير المعرف، جعل البيت الابيض يستمرئ اصدار الأوامر ويطالب غيره من الدول بالطاعة العمياء بدليل رفضه تعريف الإرهاب أو الأخذ بالتعريف الذي صاغته اتفاقية فينا عام 1815 الذي يقرر بأن الإرهاب محاربة الغير على حقوقهم، اما محاربة الغير في سبيل استرجاع حقوقهم فهو كفاح، ويخفي الرفض الأمريكي لتعريف الإرهاب في ثناياه الرغبة الرامية إلى حماية إسرائيل من وصمة الإرهاب بعملها العسكري العدواني ضد الفلسطينيين، ومحاولة إلصاق تهمة الإرهاب بالفلسطينيين في ظل التغييب المقصود للفهم القانوني الدولي لمعنى الإرهاب، وكان ذلك سببا في فقدان شعوب الارض الثقة في أمريكا لأن محاربتها للإرهاب على المستوى الدولي بدلالته المطاطية سلبت من شعوب الارض حقها في الكفاح الرامي إلى استرجاع حقوقها المسلوبة والمغتصبة، وعبّرت عن هذه الحقيقة المظاهرات الشعبية بملايين الأنفس في مشارق الأرض ومغاربها ضد الرغبة الأمريكية في الحرب ضد العراق، وان لم ينجح هذا التيار الشعبي الدولي في فرض إرادته بمنع الحرب، فإنه حقق معارضة شعبية دولية يتزايد وزنها مع الأيام فوق المسرح العالمي.

الحرب الدائرة اليوم في العراق ووصولها إلى العاصمة بغداد، حرب فريدة من نوعها، يتقاتل فيها ثلاثة أطراف: حكومة جائرة، وجيش غاز، وشعب مكافح، ويخطئ من يظن بأن الحكومة العراقية تكتسب السمات الوطنية أو ان الجيش الغازي جاء لإنقاذ العراق من ويلات الحكومة الجائرة، فكلاهما مجرم بالقتل الجماعي للمواطن العراقي وفي مقدمتهم الأطفال والمسنون من ذكر وأنثى، ولم أنجح في أن أغيب من ذاكرتي رؤية أطفال صغار على شاشات الفضائيات ترى في عيونهم اللوعة والخوف من خطر الموت ويرفعون أذرعهم الصغيرة استسلاماً لجند أمريكا عند اقتحامهم لبيوتهم بإحدى ضواحي بغداد، وهذا يجعلني اقف مع التيار الشعبي العربي والدولي ضد الحكومة الجائرة في بغداد الباطشة بالشعب العراقي، وضد الجيش الغازي الذي قتل بصواريخه وقنابله أبناء الشعب العراقي، فكلاهما عدو لنا يحاربهما الكفاح الشعبي العراقي، للتخلص من بقاء الحكومة الجائرة في سدة السلطة والحكم في بغداد، وطرد الجيش الغازي من تراب الوطن العراقي وإجباره على العودة من حيث أتى، وهذا يجعلنا نتطلع بصراحة إلى هزيمتهما على يد الشعب المكافح ليحقق بانتصاره عليهما الحفاظ على الوطن العراقي بالحكم العادل من داخله والاستقلال السياسي بإخراج الغازي منه.

هذا المطلب قضية صعبة ولكنه ليس بالقضية المستحيلة لأن التصادم العسكري بين الحكومة الجائرة والجيش الغازي سيؤدي إلى التخلص من جند السلطة في بغداد الذي يقوده الحرس الجمهوري فيستطيع الشعب المكافح الثورة على الحكومة الجائرة بعد أن أصبح يحمل السلاح الذي وزعه عليه صدام حسين لمكافحة جند امريكا وبريطانيا، وان تحقق ذلك الذي يتصوره معنا آخرون أغلق باب البقاء لأمريكا في العراق وتعثرت خطواتها المتجهة إلى حكم العالم.